كيف نرد الجميل لأعداء حبيبنا صلى الله عليه وسلم؟ / د.محمد محمد عبد الله السيد

altلا جديد في الأمر؛ فموضة التعريض بالجناب النبوي الشريف موضة قديمة جديدة يمتطيها المتحررون من ربقة الأخلاق المتسورون لسياج المشاعر العامة.  تتنوع مقاصدهم في ذلك؛ فمن طلب للشهرة، إلى نزوع للخروج على المألوف، إلى غير ذلك من المنازع التي تشترك كلها في شيء واحد، وهو أنها لا تجيز خدش مشاعر الغير في أعز مقدساته.

حديث الساعة مقال تم نشره في موقع "أقلام حرة" يسيء لنبينا صلى الله عليه وسلم. ومن حسن حظي أنني لم أعلم به إلا بعد حذفه من الموقع المذكور، و"حسبك من شر سماعه"،  لذلك سيكون كلامي في الموضوع مجرد تعليق على هامش ما تداولته المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي من أن كاتب المقال أورد إساءته تلك ضمن دفاعه عن إحدى الشرائح الاجتماعية المظلومة في السلم الطبقي لمجتمعنا الموريتاني. ولا شك أن الشريحة تلك تستحق أكبر من مكانتها التي تواضع المجتمع على منحها بحكم تضحياتها الكبيرة وإسهامها المشهود في حياة ذلك المجتمع.

 

غير أنه من المؤكد أن المجتمع الموريتاني لم يخص تلك الشريحة وحدها بهذا النوع من الظلم، فهناك طبقات كثيرة تعرضت فيه للظلم ذاته، على تفاوت في ذلك. ومن المفارقة المؤسفة أن الصفة المشتركة الجامعة لتلك الطبقات المظلومة، والمعيار الذي اتكأ عليه المجتمع في تقييمها هو كونها (طبقات منتجة). وليست هذه أول هفوات التصنيف القيمي في المجتمعات، غير أن التصنيف المجتمعي ليس سلوكا إراديا تمكن عقلنته والتحكم فيه، وإلا لما كانت "الإنتاجية" فيه قيمة سفلى و"عدم الإنتاجية" قيمة عليا. كل هذا يدخل في حيز المتفق عليه، ويستحق الكفاح "المشروع" في سبيل تصحيحه، لكنه لا يجيز التطاول على حرمات الغير، فكيف بحرمة مقدسات مجتمع بكامله!

 

لقد أخطأ صاحب المقال من وجهين: أولهما: تعديه على مشاعر المسلمين عامة والمجتمع الذي يعيش فيه خاصة. وإذا اتكأ في حقه على مبدإ حرية الرأي فعليه أن يتذكر أن "مجال حرية الفرد ينتهي حيث تبدأ حقوق غيره"، ومقدسات المؤمن هي أغلى ما يحرص عليه؛ فلا مجال للتنازل عنها تحت أي طائل.

أما وجه خطئه الثاني، ولعله الأهم في سياق قضيته، هو أنه قد أساء إلى القضية التي يدافع عنها من حيث أراد الإحسان. وصدق الشاعر الحكيم حيث يقول:

 

ولأن يعادي عاقلا خير له  من أن يكون له صديق أحمق

 

لقد جاء المقال في وقت بدأت فيه قضية تلك الطبقة تلاقي رواجا وتفهما إعلاميا على أيدي كتّاب عقلاء وموضوعيين، فوضعها المقال المشئوم في أذهان الناس على صورة مقابلة جدلية بين حقوق طبقة معينة وبين عدالة المصطفى صلى الله عليه وسلم. وللقارئ أن يتصور نظرة المجتمع المسلم إلى الرجحان في كفتين إحداهما تمثل العدالة النبوية والأخرى تمثل قيمة طبقة مجتمعية، كائنة ما كانت!

 

يرى البعض أن العبء الأكبر من الجرم في هذا المقال يقع على كاهل الموقع الإلكتروني "أقلام حرة" الذي مكن للمتحامل على النبي صلى الله عليه وسلم من نشر مقاله ونفث سمومه عبر موقع ظل حتى اليوم من أكثر المواقع تصفحا. وكثيرا ما تسعى المواقع إلى زيادة قرائها عبر التمكين في صفحتها للمواضيع الساخنة التي تستجلب الرد والرد المضاد؛ فيكون في ذلك شدا للأنظار وجلبا للقراء. لكن فكرة "الغاية تبرر الوسيلة" لا ينبغي أن تكون مطلقة من كل القيود بمقتضى حدود الحرية المرسومة أعلاه.

لقد قام الموقع بواجب الاعتذار مدعيا أنه نشر المقال دون أن يقرأه ويطلع على مضمونه. وعلينا واجب العمل بقول القائل:

 

اقبل معاذير من يأتيك معتذرا  إن برّ عندك فيما قال أو فجرا

 

ولن أقول له بأن التاريخ قد ظلم امرأ القيس عندما وصف قوله:

 

وما جبنت خيلي ولكن تذكرت  مرابطها من بربعيص وميسرا

  بأنه أقبح عذر قالته العرب. فالقراء يظنون بأن المسؤولية الموضوعية والأخلاقية تفرض على كل موقع ألا ينشر عبر صفحاته إلا ما يراه صالحا للنشر. بل إن صيانة الموقع والأخذ فيه بأسباب المنافسة تفرض عليه ألا يكتفي بمجرد الصلاح للنشر دون التجاوز إلى متطلبات الارتقاء والتميز. وهذا ما يجعل المقالات المنشورة في المواقع "المحترمة" حاصلة، بالقوة أو بالفعل، على صفة الانتقاء والتميز. فهل كان المقال "المسيء" منتقى ومميزا؟ أعتقد شخصيا أنه إذا لم يكن الأمر كذلك، فعلى المواقع التي لا تلزم نفسها بهذه الأخلاقيات أن تبث على الأثير شفرات مواقعها ليتولى الكتّاب نشر مقالاتهم فيها مباشرة دون عناء المرور بهيئة التحرير المبجلة!

 

إن خطأ من يقومون بجرم التطاول على الجناب الشريف لا يتمثل بالدرجة الأولى في كنه الجرم الذي يقومون به؛ فذلك أكبر من جرم ومن خطأ، ولكن خطأهم بالدرجة الأولى يكمن في جهلهم بعدة أمور:

أن بريق "موضة الإلحاد" الذي لمع في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، وصدر من العشرين قد خبا منذ أواخر القرن العشرين وحتى اليوم، ولم يعد الفكر الإلحادي وجهة مفضلة للتائهين وسياح الشك في حدائق الضياع بالقدر الذي كان عليه فيما مضى. وذلك بعد أن عانى المجتمع الحديث من عذاب "الهوة السحيقة" التي تتردى فيها النفس الملحدة المعتنقة لفكرة "الاندثار". فقد أصبحت هناك هزة ارتدادية حديثة نحو الهروب من الشرك إلى الإيمان

أن نفثة مصدور بالإلحاد والشذوذ لا تمثل عنصر جدة أو طرافة تستدعي التجاسر على مشاعر هذا المجتمع الوديع؛ فنحن نعلم علم اليقين بأن من بيننا ملحدين ومنافقين، فتلك سنة الله في خلقه؛ وقد كان في عهد النبوة، وهو خير العصور وأطهرها، ملحدون ومنافقون يكتمون نفاقهم دون أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم على فضحهم. ومن شديد الغباء ألا يصل الملحدون في مجتمعنا إلى درجة ذكاء الأفعى؛ فلا أحد يفتش عن الأفعى في حجرها؛ لذلك تختبئ فيه وتلازمه لأن في ظهورها الحكم عليها بالإعدام بمحض إرادتها.

أن موضة الإلحاد لم تستطع في أوج ازدهارها أن تخترق كثاثة النسيج الإيماني لمجتمع لم يعرف في تاريخه إلا الإيمان مسلكا وعقيدة، فكيف به اليوم وقد أدبرت قوافل الإلحاد وأفلت نجومه!

إن تربة المجتمع الموريتاني لا تتمتع بخصوبة الإنبات للإلحاد؛ ومن بدهيات الأشياء أن المزارع الحصيف لا يزرع النبتة في أرض لا تثمر فيها، والطبيب لا ينقل الدم لغير فصيلته، ولا يزرع العضو في جسم لا يستقبله.

أن التجني على الجناب الشريف ليس أمرا جديدا. فقد لاكه من هو أشد حنكا وأصلب  عودا من صاحب المقال ومن المدافعين عنه. وليس سلمان رشدي، والرسوم المسيئة، وأضرابها منا ببعيد. وحسبنا أن نقول لمن استصوب ارتكاب تلك المهلكة من بني جلدتنا من الموريتانيين: انتبهوا؛ فقد أحسن القول من قال:

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه  أشفق على الرأس، لا تشفق على الجبل

 

وما كان لي أن أكتب هذه السطور ردا على "هيان بن بيان" لولا ما سمعته من تعاطف البعض مع الجاني بذريعة "حرية الرأي" التي يتحجج بها كل من أراد التعدي على حرمات الغير.فليس في هذه السطور رد أصلا؛ فعلى من أرد؟ وعم أرد؟ إنما أردت ببساطة أن أنال قسطا من شرف الانتماء لمعسكر الإيمان، والاستمتاع بظلال الجناب النبوي الشريف. وقد أحسن الشاعر السوداني، الدكتور/  وافي الحاج ماجد في قوله:

فلئن مدحت محمدا بقصيدتي      فلقد مدحت قصيدتي بمحمد   ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ))(النور: 11) صدق الله العظيم، وبلّغ رسوله الكريم.

قد لا ينتبه البعض في خضم الاستياء من وخزات الإبر التي يغرسها البعض من حين لآخر في أجسام مشاعرنا الدينية إلى الحكمة الإلهية من تلك الوخزات. فإذا علمنا أن أخطر مرض في العالم هو "عدم الإحساس بالألم"، وأن الألم ما هو إلا منحة إلهية تتيح للجسم فرصة العلم بالمرض الذي يمكن أن يفتك بحياة الإنسان دون علمه لولا تنبيه الألم على وجوده، إذا علمنا ذلك إذن، وتذكرنا أن "الوخز بالإبر" هو وصفة طبية صينية ناجعة، أدركنا الجميل الذي يسديه إلينا الطاعنون في مقدساتنا من حيث أرادوا الإساءة.

ذلك أن المسلمين كلما ارتخت أعصابهم واستشعروا الأمان دبت حميا الفرقة في صفوفهم، لكنهم سرعان ما ثابوا إلى التعبئة العامة والوقوف صفا واحدا بمجرد المس بمقدساتهم المشتركة. غير أن لهم في قصة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه دليلا على عدم مشروعية الركون إلى الراحة عند الأمان؛ ففي سنن أبي داود وغيرها أن رجلا من المسلمين حمل على العدو في فتوحات بلاد الروم، فقال قوم: "ألقى بنفسه إلى التهلكة"، فقال لهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: إنكم تحملون هذه الآية على غير ما وردت فيه، إنما نزلت فينا معشر الأنصار؛ لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله قوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد.  قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.

بقي أن نتساءل عن معنى التوقيت الذي تم اختياره للتجني على الجناب النبوي الشريف؟ 

 

إنه توقيت ذكرى عيد المولد النبوي الشريف! ففي وقت تشرئب أعناق أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استقبال ذكرى مولده المبارك، واستلهام الفكر والعبر من تلك الذكرى الطيبة المباركة، واستنشاق عبير النسمات العطرة الفائضة منها، والتلقي للفيوضات الربانية المتصببة في كنفها، يقوم عبدة الإلحاد من بني جلدتنا بإحياء هذه الذكرى بالتجني على صاحبها، عليه أفضل الصلاة والسلام. لكنهم يقعون في الفخ الذي نصبوه بأيديهم؛ فيساهمون في تقوية لحمة المسلمين وتوحيدهم في موقع كانوا فيه مختلفين.

 

لقد كان بعض المسلمين، عن حسن نية بالطبع، لا يرون أهمية الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف من منظور حداثة هذه التظاهرة بعد عصور التشريع، في حين يرى البعض الآخر أنها أعز ذكرى ينبغي للمسلم أن يفرح ويحتفي بها. وبالرغم من أن لكل مقاله ومستنده في المسألة، فقد ساهمت الهجمات الحديثة على حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ككتاب سلمان رشدي، والرسوم المسيئة، وغيرها، في وقوع شبه إجماع على أهمية الاحتفاء بالذكرى في هذه الظروف بالذات، وانتهاز فرصتها لنشر سيرته العطرة، ومكارم أخلاقه، وحسن عدالته ووفائه.

فمن محاسن الإسلام أنه ليس دين جمود، فقد فتح بابا واسعا لتغير الأحكام الشرعية الاجتهادية التي لا تدخل في حيّز القطعي الدلالة والورود؛ ولهذا كان لكل من الزمان والمكان دورهما الحاسم في تكييف الأحكام الاجتهادية. وحيث إن الحكم في الاحتفال بهذه الذكرى لا ينتمي إلى شريحة الأحكام الموضوعة بالنصوص الشرعية التوقيفية،  فقد رأى بعض من كان يعارضه أن الاحتفال به قد أصبح من باب الضرورات الدينية نظرا لحاجة المسلمين إلى إطار يتم فيه الدفاع عن الجناب الشريف. واعتبر أن الولوج إلى هذا الحكم يمر عبر وجوب الدفاع عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقع من أبواب وقواعد فقهية متعددة؛ فمنها: قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ومنها: باب "المصالح المرسلة" التي كانت المتكأ لوضع كثير من الأحكام الشرعية التي استجدت الحاجة إليها في عهود الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم. وليس المقام هنا ولا الغرض التأصيل لهذه المسألة الفرعية بقدر ما هو تقديم مثال على "الجميل" الذي يسديه إلينا الأعداء عندما يدفعوننا باستفزازاتهم إلى الاتفاق ونبذ الشقاق.

فإذا كان رد الجميل واجبا، فكيف نرد الجميل للأعداء؟

 

د/ محمد محمد عبد الله السيد

أستاذ الفقه وأصوله في المدرسة العليا للتعليم

3. يناير 2014 - 16:25

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا