الرجل بين تراجع القيم و ضمور الهمم / الولي ولد سيدي هيبه

لا يمكن بحال فصل الذي تعانيه المرأة الموريتانية من انفصام عن اضطراب نفسية الرجل الذي يريد أن يستفيد من الحداثة بعقلية تمزج بحمق بين كل المفاهيم الخاطئة الموروثة من سجل تاريخ مثقل بالمتناقضات و بعيدا عن كل القيم التي كانت - على الرغم من أنها تستند

 في جوهرها إلى دين الإسلام - ترجح بصعوبة بالغة كفة "الاستقامة" في مجملها على كفة "السوء" التي لم تكن عبر كل الحقب إلا وازنة و مخلة و لكن دون الوصول إلى حد الغلو الذي لا يبقي و لا يذر. 

في خطوة بعيدة كل البعد عن اللياقة الدبلوماسية، و لكن بنية خالية من أي قصد بالإساءة أو المساس و التنقيص بموريتانيا و شعبها، قالت دبلوماسية عربية سامية زارت البلاد على رأس بعثة هامة قادمة من قطر في مهمة نبيلة لاستقصاء مواطن التعاون قصد المشاركة في تخفيف مظاهر الفقر و تحديد السبل و الآليات إلى ذلك، قالت إذا و قد وقعت تحت وطأة المفاجأة و هي تزور بعض جيوب مثلث الفقر بولاية "غورغول" "إن موريتانيا ما زالت تعيش في القرن الثامن عشر".

و الحقيقة أن هذه الشخصية السامية، و إن كانت وقعت دون أن تنتبه إلي ذلك فى شراك الألفاظ  و تحت تأثير المشاهد التي تتحدى المنطق و تحدث ثقوبا في جدار الزمن، إنما الذي كانت تقصد التعبير عنه تلك الحالة المتقدمة من التخلف و صعوبة الأوضاع التي تطبع واقع البلاد متمثلة في ضعف البنية التحتية  و حالة الشعب المزرية البادية بوضوح شديد في تدني مستوى العيش و طغيان مظاهر الفقر المدقع. و هي و إن لم تكن تقصد مطلقا الإساءة كما أسلفنا فإنها قد أصابت عين الحقيقة... و أي حقيقة ؟!

إذ كيف لأمة تدعي أنها سليلة حضارة عالمة أن تكشف عن مثل هذا الوجه المزري و كل أسباب منع ذلك متوفرة و بكثرة في بلد يملك :

·       ضفة من نهر معطاء مطل على أرض  خصوبتها مضرب الأمثال،

·        و شاطئ زاخر بكل أصناف الثروات السمكية و النباتية و من بترول و غاز،

·        و عمق ترابي استراتيجي تحسد عليه أمم الدنيا لما ينطوي عليه هو كذلك من ثروات معدنية متنوعة و نفط  و غاز؟

ثم كيف يكون الوضع كذلك و البلاد قد نالت الاستقلال عن مستعمرها منذ ثلاثة و خمسين عاما؟

لا بد من الإجابة عن هذا السؤال الجوهري و الذي ما زال معلقا أيا كانت التهم الموجهة إلى الذين يطرحونه بإلحاح ظلما بالسذاجة و رفض تجاوز الإشكال لأنه بعدم الإجابة عليه "سؤالا منطلقا" لا يمكن للدولة و أيا كانت النتائج التي تؤول إليها الأمور أن تستقيم و للشعب أن ينسجم مع روحها و أن يضطلع بدوره لضمان وجودها على قواعد تستجيب لمتطلبات و مقومات الاستمرار و العطاء.

و مَن غير رجالها مسؤول عن هذا الوضع و مطالب بالإجابة عن السؤال المحوري حيث أن المسؤولية في الأمر تعود إليهم مطلقا. فهم من  سلمتهم فرنسا عند الاستقلال زمام بلدهم دون نسائها فأقاموا و أحرقوا البخور في أولى تظاهرات قيامها و  تشاركوا تسييرها و استغلال مقدراتها. ثم إنهم من أورثوا بعد ذلك أنماط تفكيرهم و أساليب تسييرهم الجيل الذي تلاهم. و لم تكن الإضافات إلى ما تركوا من ضعف المقوم بأكثر من حجمها الضئيل شكلا و حجما و لكنها أبلغ أثرا في مسببات الفساد و مقوضات التحسن و الارتقاء.

حقيقة هي الأخرى لا بد من الاعتراف بها و تسليط الأضواء الكاشفة عليها حتى تشكل، برفع الحرج و التكلف عن إبرازها، منطلقا صحيحا لنظرة منطقية و متوازنة إلى الدولة القوية البناء والمكينة القواعد لا تقيدها العقد و الأهواء. 

وإن رجل هذه الأمة الذي حضر تشكل الدولة المركزية و شارك في إدارة دفتها و إن خرج لأجل ذلك بجسمه من جلباب الماضي، إلا أن عقله ظل في العمق سجين خيوطه المتينة تشله شلا عن استنشاق نسائم التجديد و صفاء التحولات. و لقد شكلت هذه الازدواجية أو هي على الأرجح صاغت عقله على منوالي:

·       التحلل من القيم التي بالكاد كانت تمنع المجتمع المحاط بعارم الفوضى و ضعف الأمن العام العادل من الضياع المطلق،

·       و فهم الدولة في إطار المصلحة الأنانية الضيقة على أنها الدجاجة ذات البيض الذهبي، لا يهمه كثيرا كيف تقوم بوضعه و لا كيف توزع دفئها في حضنها المنهوب.

هو إذا إشكال حقيقي مهما وارينا عنه رؤوسنا في الرمل كما يفعل النعام أو وضعنا أصابعنا في آذاننا من صواعقه حذر تداعياته على أوهامنا بأن الأمور هكذا ستظل تجري.

و يتحمل الرجل بالدرجة الأولى المسؤولية كاملة للبت الجريء و الواعي في هذا الإشكال لأن من أشعل النار يطفيها، و هو إن لم يتحل في ذلك بالشجاعة و يقدم على وضع أولى علامات هذا التوجه فإن الأوضاع الخارجة عن ناموس الحداثة و منطق العصر في "عمى مجتمعي" مطلق قد تحدث على حين غرة هزة ارتدادية مدمرة لا يمكن احتساب نتائجها.

و قد تبدو الأجواء طبيعية و اعتيادية للمراقب البسيط بما تظهره له الأحوال من هدوء و لكن هيهات فإن الأمر ليس بذاك المظهر المتسم بالهدوء إلا الرماد الذي يلف الجمر الملتهب تحت صفحته الهادئة تشعله عند الاقتضاء نفخة ليس إلا.

و قد تسبب هذا الغياب العملي، على صعيدي ضبط الأخلاق و رفع تحديات بناء صرح الدولة الملائمة لاستيعاب متطلبات العصر و دينامكيته، في اختلاط الأوراق على الجميع و تداخل الأدوار دون الاستناد إلى منطلقات علمية عملية تراعي ثلاثية الثوابت الدينية و الخلقية و البنيوية لدولة العدل و المساواة و الديمقراطية.

·       كيف تفسر أن توبخك امرأة و لم تقترف ذنبا أو تؤت جرما اللهم أنك لم تستجب لنزوة منها آنية أو طلب لا تقوى عليه؟

·       و كيف تعلل إساءة غِرِ يسابقك بسيارة فارهة و يضايق فيك سنك و ثقتك في الوطن؟

·       و كيف تتقبل نفسك و أنت تعلم أنك لا تؤدي واجبك و تأخذ بقوة "الغازي" و قانون "الكزرة" فوق حقوقك و لا تبالي إن أغرق من بعدك الطوفان؟

·       و كيف تفسر عجزك عن صد جيرانك بالقانون عن ترك أغنامهم تتلف ممتلكاتك في بيتك و سيارتك أمامه إن لم تكن تحمل نفس جين الظلم و الفوضى؟

·       كيف تفسر أن كل مصلحة في كل قطاع هي ملك رئيسها أو قبيلته إن لم يكن من الخائبة قبائلهم، يستأسد بها و يقايض و يبيع و يشتري؟

إنها أسئلة قد تبدو بسيطة و ساذجة في ظاهرها و لكن بمجرد اعتبارها فإنها تنبئ بعمق الخلل و بعد النظام و العدل و المدنية عن سكة الشعب في ظروفه الشاذة هذه عن مسار العالم من حوله.

فمن ذا الذي يمكنه السماح بانتشار مثل هذه الفوضي المقيدة و يغض الطرف عنها و لا يبحث في وضع نهاية لها غير الرجل الذين يجعلها عمدا ستارا بين المجتمع و بين ما يطلق العنان فيه لنفسه من تجاوزات لا يمكن حصرها إلا مجتمعة في انتكاسة البلد و زحفه مبتور الأعضاء و مشلول الحركة بعيدا وراء كل بلدان العالم و حراك كل أممه على جوقة الحداثة الموحدة الإيقاع و المتقاربة الأنغام.

و ليس النهب الممنهج و العبث المبالغ فيه لمقدرات الدولة و انتهاك مسطرة القوانين و استغلال المواقع المتقدمة في المسؤوليات و استخدام النفوذ و ترسيم الوصولية و الانتهازية و غيرهما من وساطة و محسوبية و تملق و القائمة تطول، إلا كلها مجتمعة من تلك الآفات التي أصل لها بعض الرجال في دائرة الدولة و اختطوها منهجا تدخل تحت طائلته كل المماراسات التي تقاسمتها - و هم يغضون الطرف عن ذلك - الفئات الأخرى من المجتمع نساء و صبية و زودتها بمعاول إضافية لهدم بنيان الكيان المخلخل أصلا.

فهل يظل الرجل الموريتاني بهذه الازدواجية المسيئة لمكانته في تركيبة المجتمع و للبلد في مساره إلى الدولة المتوازنة؟

و هل يعي حتى خطورة هذا التنازل الخطير عن دوره الفطري الذي خلقه الله له و اختار له صفاته المميزة و أسماء بما يناسب من الألفاظ على المستقبل و في ظل حاضر عاجز عن صنع وجه مقبول لوطن مقدراته هائلة و سكانه جميعهم  أقل عددا من سكان عاصمة السنغال لوحدها؟

23. فبراير 2014 - 9:51

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا