الناي.. العتبات.. وأصحاب الوجوه المحترقة ! / الشيخ نوح

أمة تصر أوكار السادية المتجددة على وأد تاريخ عرَقها الممتد على مساحات جغرافية شاسعة من الألم حد اللانهاية..! أمة كتبت كل تاريخها الحزين بحبر الوجع على دفتر الزمن الرذيل الذي يضن على من يصنعون فيه الحياة بموت كريم يليق بميت منذ الولادة.

الكتابة جرح غائر في جسد المعاناة لكن الكتابة عن شعب "لحراطين" تفقد مصداقيتها حين تصير مجرد بكائية على أعتاب الجُمل الرخيصة؛ فهي فن ثري التجليات يختزل ملحمة الإنسان والوقت فعبارة "لحراطين" تحمل من الدلالات المضمخة بالألم والحرمان الباهظين أكثر مما تحمله أية كتابة تستمرئ الدموع وتمارس العادة السرية في مرحاض الكلمات!
لست بوارد نقاش المعنى الإيتيمولوجي للكلمة وقصة "الحراثين" و"اهرضن" و"الأصل الإثيوبي بظلال إغريقية" و"أصحاب الوجوه المحترقة" لكنني بصدد هدم متاريس متخيلة ظلت تكبل العقول لفترة طويلة وظلت مناطق محرّمة على التفكير الحر من طرف الذهنية الجمعية المتعفنة لبداة الصحراء وآخر معاقل التفسيق والتحريم والأضواء الحمراء في مجرة درب التبانة؛ حيث اللعنة والطهر تزوجا منذ الأزل لينجبا شعبا معقد التركيبة يخاف الشمس والحرية ويمجد الظلام والسادية حد التقديس..
لأن الصمت أحد قلاع الرذيلة التاريخية فأكذب حكمة هي تلك التي صاغته من ذهب وكيف لا تكون كذلك وهي حكمة تنتمي إلا ما قبل تقنية النانو بل سأقول تنتمي إلى زمن كانت الخرافة فيه ملجأ الإنسان لتبرير غباءاته و تفسير العالم المدهش من حوله؟!
من هنا تشتعل لديّ شهوة تكسير كل الأصنام القديمة والأمثال القديمة والأشعار القديمة لأنها بكل بساطة لا تنتمي إلي ولا إلى زمني الرقمي ولا إلى عصر النور وحقوق الإنسان والنانو..
حين يجعل الكاتب رئته نايا يترجم لهيبُ زفراته حنينَ القصب إلى الشجرة الأم وحلمَ أمة  لحراطين بالحرية والانعتاق.. وحين يتأمل الكاتب علاقة الغرام التي تنسجها شفاه نافخ الناي مع ثقوب تتنفس أحيانا و تُكبت أحيانا بفعل أصابع النافخ نفسه يدرك أن العلاقة بين الرئة والناي وبين الحرية والكبت وبين التاريخ والواقع هي عوالم متمددة لا تكفيها لغة الدموع ولا مفردات الخشب لتجسيد أبعادها الغائرة في الروح والوجدان ولهذا تلازم "لحراطين" و"النيفارة"(الناي) منذ اكتشفوا حنين القصب للشجر و منذ خبرَ القصب ثاني أكسيد الكربون الساخن المحمل بآهات أمة كاملة طحنتها العنجهية وكبتتها أصابع الظلم كما يكبت عازف الناي تلك الثقوب التي يبدو أنها تتدفق ألحانا لكنها في حقيقة الواقع تئن؛ بل تترجم أنين الفنان الذي بدروه يغترف أنفاسه من رئات آلاف المطحونين والمستعبدين والمسلوخين من إنسانيتهم التي يتسع لها القبر من أول حبة رمل حتى آخر وديان "شمامه".. إن قصة "لحراطين" والناي هي قصة شهقة خرقت صمت التاريخ وظلت مدوية شاهدة على معاناة المستعبدين وتحجر القلوب السادية وتختزل بشكل ساطع إرادة الإنسان ورغبته الجارفة في الحياة حتى ولو وُلد ميتا!
كلما ضاقت الحياة واكفهرت سبلها اكتشف الإنسان ملاذا أخيرا لحياة قد تكون ذهنية لكنها تلبي على الأقل شوقه إليها وهذا ما جعل الغناء أحد تلك المنافي التي لا يمكن أن يتحكم فيها السجان عندما يصبح فردوسا في مجرة الألم والوجع التي تستدير كصفر مغلق على قدر المطحونين فغنوا للعتبات النبوية العالية وابتكروا "المديح النبوي" كنوع من تذكير السادية بمدى بعدها عن تلك الحقبة المطهرة والتي تشكل نسختها المحرفة سبب صداع الإنسان المزمن في هذه الصحراء،لقد كان المستعبَدون يلقون الدروس على السادية ويهربون إلى جواره عليه الصلاة والسلام كنوع من رفض هذا الهراء الذي يمتهن الكرامة البشرية باسم رسالة جاءت لترفع من منسوبها وليس لتحويل الناس إلى ملك خاص لبعضهم البعض؛ إنه اتصال مباشر بالمنبع الأصلي وكفر مهذب بعقلية "الوسيلة" وفكرة ظل الله في الأرض، ورفض صارخ ل"إله" صغير تذهب كل أعمال المستعبد الصالحة إلى حسابه في الآخرة كما تذهب كل كرامته في هذه الدنيا وكل عرقه إلى الحسابات البنكية للسادي الأخير..
لقد تغني المستعبدون بآلامهم في "كرز المديح" بشكل مموه وهو ما يدل على أن الإنسان مهما كانت كثافة الأغلال التي في يدي حريته قادر على أن يجعل من صليلها إيقاعا يرافق نبضات قلبه الموقعة بنوطات الوجع ليخلق من هذا كله سيمفونية تتحدى الزمن وتحفر وجدان المغلول في جداره نابضا بالحياة حتى وإن لم يحظ إلا بنصف حياة.. قد يكون غريبا أن تعزف الألحان بسلاسلك لكن الأمر أبعد ما يكون عن متلازمة استوكهولم كما قد يفهم البعص!
"لحراطين" أمة كتبت أقدارها المثخنة بالوجع والمعاناة.. بأنين القصب المشتاق إلى أمه.. وبأصوات المداحين الحالمين بالسماء بعد أن أصبحت الأرض مهرجانا هائلا من الظلم والظلام... وبسيمفونية المناجل التي تصنع الحياة وتربح التجاعيد.. وبالصبر الأسطوري على حالة ألم حان الوقت لتحولها إلى حالة إبداع قادرة على مضاجعة العالمية إذا اغترفنا من نهرها الأبدي..
لقد حان الوقت ليخرج الكتاب والمبدعون في مختلف المجالات إن كانوا ما زالوا فعلا أحياء من إثم الصمت وكهف اللامبالاة وقبر عباءة شيوخ القبائل النتنة إلى زمن الماء والضوء علهم يترعون رئاتهم ببخور الوجع الحرطاني الباذخ الإدهاش!

25. مارس 2014 - 17:24

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا