يوتوبيا موريتانيا الجديدة ... / محمد عبد الرحمن الحسن

يقول الله (عز وجل) : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } الآية .

يقول طه حسين في مقدمة كتابه ( المعذبون في الأرض ) :
إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل
إلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل
إلى الذين يجدون ما لا ينفقون
و إلى الذين لا يجدون ما ينفقون
إلى أولئك و هؤلاء جميعا ، أسوق هذا الحديث ...
أحيانا أحس و أنا أتخيط خبط عشواء في خضم البحث عن حقيقة و نوع معاناتنا أنني ربما أبحث في الزمكان الخاطئ ، فكلما تولى أمرنا رئيس يقولون أنه الضوء الموجود في نهاية النفق ، و ما إن يفل نجمه حتى يقولون أن حقبة مأموريته كانت امتداد لمسلسل الفساد و القحط الذي نعيشه منذ أ كفر المستعمر بذرتنا في هذه الأرض ليكون موقفي غير بعيد من موقف والد الفيلسوف ( كامبانيلا ) حين استدعي لسماع شهادته حين محاكمة ابنه بتهمة الالحاد ، حيث أجاب ببساطة آسرة " لقد سمعت أن ابني كتب كتابا في نابولي ، و قال لي الجميع أنني رجل محظوظ ، و الآن يقول الجميع أنني رجل تعس ، أما أنا فلا أستطيع القراءة و لا الكتابة ) .
لكن لو قدر لوالد كامبانيلا أن يعاصرنا لاستطاع بأميته أن يدرك حقيقة مأساتنا و تخلفنا و فساد جميع حكوماتنا ، و أنانيتها .
و ليست (يوتوبيا موريتانيا الجديدة ... ) التي ينظر لها البعض الآن إلا نسق خيالاتي يصطدم بالواقع لينتج المزيد من الفساد و الحزن .
إن المجتمع الموريتاني بأميته و فقره و بداوته لا يمكنه أن يعبر عن ذاته من خلال العمليات الانتخابية ، لأن التأثير على إرادة الأفراد يقدح في صحة العمليات الانتخابية ، فلا قصد لمن لا إرادة له ،فمثلا هل يمكن أن يكون الشعب الموريتاني هو من أضفى الشرعية على جميع جلاديه ؟
نعم ! الشعب الموريتاني هو من كان طوال هذه السنوات المنصرمة يقوم بإضفاء الشرعية على جميع جلاديه ، فالمادة (2) من الدستور تنص على أن ( الشعب الموريتاني هو مصدر كل سلطة )  و هذه السلطة طالما كانت أوتوقراطية  قمعية و أحادية و تتسم بالفساد و التهور .
أجزم أن أي شخص لن يضفي الشرعية على جلاده بمحض إرادته  ، و بموجب هذه السلطة التي منحها الشعب للحكومات الاستبدادية و العسكرية البروتورية تم لعن هذا الشعب من آفاق التقدم ، فالسلطة كما يقول اللورد أكتون : ( مفسدة ، و السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ) .
إن أوقح مظاهر فساد حكوماتنا هو الفارق البين بين المستوى المعيشي لأفراد المجتمع ، فالاستغلال السيئ للسلطة و النفوذ خلق في المجتمع طبقتين ، طبقة غنية غنى فاحش ( النافذة ) و طبقة فقيرة ( المعذبون في الأرض ) مما يعني غياب طبقة وسطى ، و مع غياب طبقة و سطى فمن المستحيل التأسيس للديمقراطية و الحكم الرشيد ، بل إن استشراء الفقر في المجتمع سيزيد اتساع نطاق الجريمة ، كما رأى ذلك توماس مور في القرون الوسطى ( العلاقة بين الجريمة و الفقر ) حتى أن الغنى الفاحش يزعزع أمن الدولة ، كما يقول ( ليكورجوس ) ، فالأغنياء كثيرا ما يستخدمون نفوذهم لإعاقة مجرى العدالة ، و محاباة الحكام ما يمنع وجود حكومة تكنوقراطية .
إنني أعلم أن الأمر تماما كما تصوره لويزا برنيري  في كتابها ( المدينة الفاضلة عبر التاريخ ) حيث تقول : " الواقع أن المشرع يفقد القدرة على نقد القوانين التي وضعها بقدر ما يتوقع من الشعوب الأخرى الخضوع لهذه القوانين ) ، هذه فعلا هي حقيقة الأمر فالذين يشرعون قوانين تقطع يد السارق أو ترمي به في قعر السجن كان من الأحرى بهم أن يؤمنوا له الرغيف و كسرة الخبز ، على غرار شريعتنا الاسلامية السمحاء ، فالقانون في حالتنا ينطبق عليه ما قاله هيباس الإليسي :
" القانون قد أصبح طاغية يتحكم في الانسان و يحرضه باستمرار على اتيان أفعال غير طبيعية " .
إن مجرد القول بأن عصور الفساد انصرمت لا يكفي ، لأن ما يقال ليس بالضرورة أن يكون هو الواقع ، و هذا يذكرني بقصيدة أحمد مطر (مفقودات )
حيث يقول فيها :
زار الرئيس المؤتمن
بعض ولايات الوطن
وحين زار حينا
قال لنا :
هاتوا شكاواكم بصدق في العلن
و لا تخافوا أحدا .. فقد مضى ذاك الزمن
فقال صاحبي "حسن "
يا سيدي
أين الرغيف و اللبن ؟
و أين تأمين السكن ؟
و أين توفير المهن ؟
و أين من
يوفر الدواء للفقير دونما ثمن ؟
و في الأبيات الموالية شكر الرئيس "حسن " و أخبره أنه لم يكن يدري بأن شعبه لا ينعم بوجود هذه الضروريات  ( و نحن نعلم جميعا بأن الرؤساء لا يفوتهم أبدا ما يجري في أوطانهم ) .
و بعد عام يزور نفس الرئيس نفس الولاية ، و يدعو أهلها لتقديم  شكاواهم  في   العلن ، لكن الجميع هذه المرة يصمت ، إلا أحمد حيث يعيد نفس المطالب التي قدم صديقه حسن مع زيادة " و أين صاحبي حسن ؟ "
إن يوتوبيا موريتانيا الجديدة باطلة و غير متصورة مادامت تقترن بالوقت الراهن فكان من الأحسن أن تكون تصورا مستقبليا يفقس في المستقبل القريب بدل إدعاء تجسيده في الحاضر .
إن الحياة التي يدعو لها أرسطو فانيس ، و ينظر لها زينون الكيتوني ، أي حياة مشتركة للجميع في كنف الحرية و الاستقلال ، هي وحدها الحياة التي سنرضى العيش في كنفها ، و لا سبيل لقمع تطلعات الشعب ،بالأساليب الديماغوجية ، أو تخديره بالتنظير اليوتوبي العقيم .

28. مارس 2014 - 13:15

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا