سفر في مفردة "الرحيل"/ محمد عبد الله ولد ابابه

كم هي دبلوماسية كلمة "الرحيل" حين تسافر في المسافة بين العقل والقلب والثقافة، فتتغلغل في سوسيولوجيا الحياة الموريتانية بكل أطوارها، وتطبع الحياة اليومية للفرد الموريتاني؟ !

لم تكن كلمة "الرحيل"، التي مثلت المفتاح والعصى السحرية لمعظم الثورات العربية، نشازا على الأذن الموريتانية،

 حين رفعتها المعارضة الموريتانية في مسيرات 2012 التي كانت بمثابة "الطبيب بعد الموت" بعد أن فوَّتت المعارضة الفرصة، حين لم تدعم حراك 25 فبراير،  في انتظار حوار مزعوم،  فعادت لنهجه، ولات حين عودة !!

إن مفردة "الرحيل" كلمة من صميم الثقافة الموريتانية، فالمجتمع الموريتاني يوصف بــ"الرحالة" Les nomades، وهذه التسمية الفرنسية "ذات الملمح اللاتيني" )ربما( تعطي أبعادا دلالية تاريخية حول انتمائنا الى مملكة  نوميديا، التي قامت في الجزائر في القرن الثالث قبل الميلاد. ولا تزال مجموعة أو إثنية انْمَادِي الموريتانية، تعيش على الحدود الموريتانية الجزائرية.
فهل يمثل القوم (انمادي) آخر الادلة الماثلة على انتماء موريتانيا (وللاسم: موريتانيا ارتباطه بالشمال الأروبي هو الآخر) الى نوميديا ؟

لاحظ التناصَّ اللفظي بين كلمات: "نوميديا"، "انمادي"، وLes nomades؟ !

الرحيل مرتبط بنوعية النشاط الاقتصادي للمجتمع الموريتاني القديم (الرعي)، ففي بلد تمثل الصحراء ثلاثة أرباعه يكون النشاط شبه الوحيد لسكانه هو تتبع مساقط الغيث ومنابت العشب، ذلك أن الحضارة، بما تعنيه من ثقافة الاستقرار، ترتبط جذريا، آنذاك، بالزراعة، وهنا فإن المجموعات الموريتانية المصاقبة سكنيا لنهر السينغال ( او نهر صنهاجة)، والتي مارست الزراعة، وبالتالي الاستقرار، تمثل استثناء يؤكد قاعدة "الرحيل" الموريتانية، فالثقافة (على الاقل الثقافة المدنية)، رهينة بممارسة الزراعة والاستقرار، ولهذا فالثقافة، في النهاية، هي لازمة الزراعة ومن هنا كانت كلمة La culture تعني المفهومين معا (الزراعة، والثقافة) .
إن عدم ارتباط الثقافة، وليس الحضارة، بالمدينة، الذي يجد جذوره التنظرية على المستوى الأكاديمي، قد لا يكون دقيقا، فالثقافة المدنية غير الثقافة البدوية، لذلك تحيل الثقافة في بعض الاحيان مباشرة إلى الثقافة المدنية (المواطنة، احترام الآخر، واتباع نسق معين في الحياة).

إن العاصمة الموريتانية، نوكشوط مرحلةٌ من السينغال، مما يعني أن الرحيل واكب الحياة السياسية الموريتانية للدولة، وأصبح جزء من ذاتِيَّــتِها، تماما كما رحل المجتمع الموريتاني من البادية إلى المدينة (رحيل على المستوى المؤسسي، ورحيل على المستوى الطبيعي والفردي).
في قصيدته "السفين" يلمح الشاعر أحمدُّ ولد عبد القادر إلى بعد ثقافي للرحيل في حياتنا حين يقول :
رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وهنا نحن نبحر... كما كان اجدادنا يبحرون
تقول لنا ضاربة الرمل واعجبا، سفينتكم
رفعت كل المراسي... مبحرة ألا تشعرون؟

ويصور هذا الشاعر، الذي واكب عملية "الرحيل" من البادية إلى المدينة في سبعينات القرن الماضي، بدقة، تداعيات ذلك التحول و ما صاحبه من تحول على المستوى الذهني والثقافي، تحت عوامل عديدة من أبرزها الجفاف ومتطلبات المدنية الحديثة ما بعد ظهور الدولة الحديثة.
لكنه يفتح الافق لتحوُّل ورحيل أعمق، مستشعرا خطورته عندما يقول: ..."سفينتكم،
رفعت "كل" المراسي مبحرة ألا تشعرون".

إن رفع "كل" (وليس بعض) المراسي مؤذن باجتثاث الذات في سبيل الإبحار، عبر رحلة سندبادية غير مضمونة العودة، في بحر متلاطم الأمواج، لما تتحددْ طبيعته آنذاك، لكنه سيعرف بــ"العولمة"، وهذا يمكن فهم خطورته أكثر حين  يضيف التساؤل الاندهاشي: ألا تشعرون؟ !

ولئن تعارف الانتربولوجيون على "أن الدخول إلى مقاصير الحضارة يستوجب خروجا من مضارب الثقافة"، فإن الأمر لا يعدو كونه "خروجا"، وليس كلَّ الخروج، في "ثنائية المضارب" و"المقاصير".

إن السؤال: "ألا تشعرون" الذي تطرحه هذه العرافة، "ضاربة الرمل" التي تلعب دور المثقف المستشعر خطر الرحيل، والإبحار في العولمة، لم يحظ بعدُ بالإجابة. لذالك لن ترسوَّ السفينة حتى نستشعر خطر الرحيل.

في حياتنا الثقافية والاجتماعية نعيش الرحيل بكل تجلياته، فما إن يدخل أحدنا القفص الذهبي بحمامته الوديعة، حتى يقرر الرحيل (ارْحيلْ) بها الى أهله، فتعيش الفتاة رحيلا عصيباً على المستوى النفسي، فتصبح بين أناس غرباء عليها، لم تعرفهم من قبلُ يحسبون عليها انفاسَها، بعد أن عاشت برهة من الزمن، بين حنان الامومة وعطف الابوية، وتمنت حياة لطيفة "عفوية" مع شخص تحبه. إنه الرحيل يوم تختلط سخونة الدمع بجمال كحل العين !!
في المدن العريقة، كالقاهرة وبغداد، وحتى في بعض المدن الإفريقية، على بساطة العمران فيها،  تكون قيمة المنزل بعدد الذكريات الجميلة فيه، أما في موريتانيا فان قيمة المنزل تتعاظم بحسب غلاء سعره، فما إن يحس أحدنا بِـِغلاء منزله حتى يبيعه و"يرحل" عنه، فالمهم ما يدره من أرباح. إنها ثقافة "الرحيل" النفعية على حساب الوفاء للأرض والتمتع بجمال الذكريات.
من  النادر جدا أن يسكن شخص دار أبيه، وبالأحرى دار جده، بل داره هو قبل عشر سنوات.
إن أبرز الخطط التنموية "المدهشة" التي يتبجح بها النظام القائم هي أنه رحَّـل سكان بعض المناطق داخل العاصمة إلى مكانِ اتخذ من "الترحيل" تسمية له، وستردد مفردة "الرحيل" في مفردات خطابنا اليومي طويلا، فيظل تجسيدها واقعا. إن اختفاء مفردات  اللغة لاحق على غياب استخدام مدلولها.
إن شبه غياب "مشاريع المجتمع" لبعض الأحزاب، وعدم وجود متكئات لها في بعض الاحيان، بل وعدم قناعة المنتمين إلى هذه الاحزاب بخطابها، على المستوى الفكري، عوامل بارزة وراء ظاهرة "الترحال السياسي"، التي تمثل أبرز مظاهر النفعية وسيطرة الهاجس الخاص في تصرفات من نعتبرهم ساستنا.
يجب أن لا نودع هذه المفردة، حتى نحقق من خلالها ما حققه الآخرون، إن استقرارنا رهينة بعودة زمام أمرنا إلينا وهذا لن يتم قبل ترحيل العسكر من الحكم، حتى يتغلب مفهوم الدولة الحديثة (الجمهورية) على مفردة الرحيل.

15. مايو 2014 - 12:37

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا