الوفاء السياسي في عُرف النخبة الموريتانية "شهادات ومواقف " / محمد المصطفى ولد سيدي ولد أهل أعل

الوفاء ذلك المبدأ السامي الذي يقدسه كل البشر -على الأقل نظريا- مهما اختلفت الأزمنة والثقافات والحضارات والأديان والقارات. لكن توهج هذا المبدأ الإنساني وحضوره يتقلص كثيرا في سلوك البشر عندما تستدعي المواقف والظروف المتقلبة تجسيده عمليا!

  في حياتي وحياتك عزيزي القارئ ما يعزز هذه القناعة، أما في عالم السياسة فإنه لا يحظى بأي اعتبار القاعدة الذهبية: ليست هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة وإنما مصالح دائمة المصالح إذن هي القاعدة التي توجه السلوك  خصوصا في العلاقات الدولية والأممية لكن في سياق مجتمعنا المحكوم - فعلا أو افتراضا- بقيم الإسلام السمحة وأخلاق وتقاليد البداوة وشيمها ألا يمكن الحديث عن حضور لهذا المبدأ الإنساني عند نخبتنا السياسية!؟
الوفاء مبدأ كثيف الحمولة وعميق الدلالات والأبعاد. لن نتكلم عن الخيبة التي يشعر بها منتخِب أو منتخَب في جدلية الوعود والإنجازات، وإنما سنتكلم عن بُعد محدَّدٍ ونحن في عرس الولاءات  المعبر عنها بشتى الأشكال لتبعث رسالة واحدة في ظاهر الأمر معبرة عن الولاء المطلق والوفاء الصادق! لانود التشكيك في مشاعر الناس ،دروس التاريخ التي سوف نستعرضها قد تدفعك لذالك عزيزي.
سنتكلم عن تلك الخيبة وذلك الأسى الذي أحس به وعبر عنه قادة ورموز حكموا هذه البلاد وجعلت منهم النخبة السياسية والإعلامية في البلد أصناما وأبطالا خرافيين لكن عندما حطمت الرياح سفنهم وعصفت الرمال المتحركة بالكراسي ، وقع الانقلاب الأكبر في رؤية النخبة ومواقفها ففرض الدرس نفسه الذي استخلص بعد فوات الأوان.
أربعة رجال حكموا بلاد المرابطين بعد الاستقلال إلى اليوم وتوافر لهم ركنا الحكم، الصلاحيات الواسعة والقدرة على ممارستها إذ هناك من ساد ولم يحكم بفعل الزمن القصير أو الضغوط.
ـــ  الأستاذ المختار بن داداه
ـــ المقدم محمد خونة ولد هيداله
ـــ العقيد معاوية ولد سيدا حمد الطايع
ـــ الجنرال محمد ولد عبد العزيز
*** الأستاذ المختار بن داداه
صحيح أن المختار بن داداه يمكن نعته بالقائد المؤسس حتى وإن لم ينشأ موريتانيا من عدم كما يحلوا للبعض أن يصف دوره ولقد كان -حسب الدراسة القيمة التي قام بها الكاتب الإيطالي دوساشي- يدير النخبة بأسلوب شيخ  الجماعة بما يعنيه ذلك وما ينطوي عليه من اعتبارات أهمها سيادة قيم الجماعة التي من ضمنها الوفاء ولقد أغدق الإعلام ورموز تلك النخبة العديد من الأوصاف على المختار من قبيل القائد الملهم، صانع الاستقلال،رمز الوحدة الوطنية.....
فجأة وبعد العاشر من يوليو 1978م واستيلاء الجيش على السلطة تحول الرمز إلى شيء آخر فلنسأل المختار عن شعوره لكن لنتريث حتى لا يشعر بوطأة كوابيس الغدر تلاحقه وهو في القبر إذ تجنب الرجل هذه اللحظة ودون إجابته بهدوء وبنظرة صوفية متأملة.
تحاول سبر غور هذه النفس البشرية العصية على التوقعات يقول ولد داداه :
"مادمت رجلا سياسيا ومع أني لم أكن نزاعا إلى الريبة بل كنت أمنح الشخص كامل الثقة ، فقد كان الشك يخامرني باستمرار في صدق نوايا أولئك الذين يعلنون على رؤوس الأشهاد مدى تعلقهم بالسلطة القائمة وإخلاصهم لها ....ولذا وجدت أن علاقتي الشخصية السابقة لسنة 1957 كانت أكثر مصداقية وتجرد" –موريتانيا على درب التحديات.ص22-
ويضيف المختار:
"عند سماعي قائمة من ساندوا الانقلابيين...  لم أتمالك عن الضحك لأن هؤلاء كانوا بالأمس القريب يتبارون بحماس نضالي داخل حزب الشعب الموريتاني وقد قادني هذا إلى التفكير مليا في هشاشة العواطف والسلوك البشري وما ينتابه من تقلبات" –المرجع السابق .ص21-
بيت الشعر الحساني الوحيد " الكَافْ" الذي استعرضه المختار بن داداه في مذكراته هو بيت يصف السلوك الانتهازي وكأن في ذلك رسالة إلى المزاج الشعبي الموريتاني :
سِيدِي ذَاكْ الجَاكُمْ فَاتْ اَكْبَلْكُمْ جَانَ ***وَاسْوَ عَادْ اَمْعَاكُمْ وَاسْوَ عَادْ اَمْعَانَ
وبقي السؤال الذي طرحه المختار معلقا دون إجابة وهو لماذا لم يتحرك قادة الحزب ومناضلوه لمؤازرتي في أحلك الأوقات والظروف ليعبروا عن التضامن في أدنى صوره ؟!!
** المقدم محمد خونه ولد هيداله:
ثقافة المرء وشخصيته تتحكم إلى حد بعيد في ردود الفعل التي يبديها إزاء المواقف المختلفة لذالك اختلفت ردة فعل المختار الهادئ والمتأمل من خنجر الغدر الذي وجه إليه ،عن المقدم هيدالة بطابعه  الصحراوي  ومزاجه الحاد يقول هيداله في كتابه "من القصر إلى الأسر" ص.146
"في سجني كنت أستمع إلى الإذاعة فاستغربت الحملة التي تكال لي ،وأغرب من ذلك أنني سمعت ممن عمل في مناصب سامية في الإدارة الإقليمية يقول أنني كنت أظن أنني كل شيء ولا أهتم بمعاوني ولا بالمواطنين وقد ساءتني هذه الحملات جدا"
من المعروف أن الإذاعة الوطنية والإعلام الرسمي عمل جاهدا على تسويق صورة ذهنية عن هيدالة باعتباره رجلا لا كالرجال على حد تعبير الأغنية الشعبية وفجأة انهار الهرم وبدأت صورة مغايرة تروج عن عهده بالكامل ، لقد دفع ذلك بهيداله ،إلى أن يقدم على خطوة جريئة عندما هدد سجانيه بالإضراب عن الطعام يقول هيداله "كتبت للحكام الجدد رسالة هددت فيها بالإضراب عن الطعام إذا لم يوقفوا هذه الحملات" نفس المرجع ص146.
* العقيد معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع
رغم انعدام سمات "الكاريزما"  (الزعامة) في شخصية معاوية قدراته الخطابية المحدودة وانعدام جسور التواصل الحقيقي بينه وبين شعبه. إلا أن الأقدار أتاحت له أن يتربع على الكرسي الرئاسي فترة غير يسيرة من الزمن فأغدق المناصب وأتاح فرص الإثراء غير المشروع للعديد من أعوانه وقد دفع ذلك بمن جنى الثمرة بأن يروج لبقاء الشجرة فتم -لأول مرة- في موريتانيا الحديث عن التوريث من الأب إلى نجله وعندما أطيح بالصنم تكلم بانفعال واستورد تفسيرا للحادث مستعرضا المثل الفرنسي " عليك أن تخشى عدوك مرة وصديقك ألف مرة "  .
ويقال أن معاوية كاد يفقد صوابه عندما رأى رجلا ممن كان يروج لفكرة التوريث يتحامل عليه وينعت عهده بأقبح الأوصاف
وسيبقى التاريخ في انتظار الكلمة التي قد يقولها  والتي على الأرجح لن تخرج عن نسق ما عبر عنه أسلافه.
وفي الأخير لك الحكم والتعليق عزيزي القارئ على صلابة مواقف النخبة من هشاشتها ،معرفة مساحة العتمة وبقعة الضوء ،والفرق بين الشعارات والمشاعر الحقيقية ،حَدُّ الصدق ودوافع الانتفاع ،وجسور المحاباة والنفاق على حساب البسطاء من الشعب ،صمود القيم وبريقها رغم هيمنة الواقع  وتحكمه.
فسبحان الباقي بعد زوال الدول والعهود.
دمتم ودامت موريتانيا بألف خير.

16. يونيو 2014 - 1:38

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا