إلى أين نتجه؟ / أحمد صمب ولد عبد الله

تتقاذفنا أمواج بحر هائج من الأزمات والتحديات، ما تفتأ تهدؤ حتى تثور من جديد مهددة إستقرار وطننا ومستقبله. لم تستقر السفينة منذ أن هبت العواصف التي أطاحت بالرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد للطايع، لما تأججت الأزمة في هرم السلطة وانهار التوازن السياسي الذي اعتمده النظام طوال 

عقدي حكمه. كل التوازنات السياسية القديمة أصبحت مرفوضة، وغير مقنعة وارتفعت المطالبات بسياسات أكثر عادالة وإنصاف للفئات المهمشة، وبإحلال العدل والمساوات بشكل يمكن البلد من البقاء على قيد الوجود.

        شعر معاوية ولد سيد أحمد الطائع بضرورة التغيير وفهم أن التوازن الذي قام على المحاصصة الإقصائية على حساب الفئات المهمشة لم يعد مقبولا. تصاعدت مطالب شريحة لحراطين بتمثيل أفضل وارتفعت نبرات فئات إجتماعية أخرى لم يسمع لها من قبل بمطالب خاصة بها كفئة لمعلمين، وظهرت بذلك بوادر التصدع في كيان المجتمع؛ وفي غمرة تخبطات ولد الطائع لإيجاد حلول للمشاكل المطروحة ولإحداث توازن جديد على أسس جديدة عصف به انقلاب "حاميه". فاجأ الإنقلاب كل المتتبعين والمحللين لعدم توقعهم أن تقوم به الجهة التي قادته ولعدم معرفة الناس لشخص "النمر" الجديد.

          تمت الإطاحة بولد الطايع، ولكن الانقلاب لم يكن في الواقع ضد ولد الطايع بل اتضح فيما بعد أنه كان ضد التحول والتغيير الذي هم ولد الطايع إدخاله على سياساته الاجتماعية، ومحاولته دمج الشرائح المهمشة دمجا فعليا. لقد هم ولد الطايع بعد المحاولة الانقلابية الدموية الفاشلة التي قادها فرسان التغيير، إحداث توازن جديد لعله يصلح الإختلالات التي بدأت تطفوا على السطح منذرة بنسف تماسك النسيج الإجتماعي عندما تفاقمت المطالب من داخل الفئات المهمشة بضرورة ترقية شريحة لحراطين ولمعلمين والمجموعات البربرية - مجموعات ظهرت في تسعينيات القرن الماضي تدافع عن هويتها البربرية - مطالبة بدمجها دمجا فعليا داخل الحكومة والمؤسسات العمومية، وبتوزيع عادل لثروة البلد بين جميع مكوناته.

        وزع ولد الطائع إبان حكمه  رخص الصيد على الأرستوقراطية القبلية وتنازلت الدولة لبعضهم عن مؤسساتها الاستثمارية وعن عقاراتها بحجة الخوصصة، ووزع رخص بنكية ليتيح لهم فتح بنوك خاصة، وانتزع الأراضي الزراعية من سكان الضفة ووزعها عليهم، وأنشأ صندوق للقرض الزراعي حرم منه أهل الأراضي الأصليين فلم يستفد منه إلا الإقطاعية القبيلة؛ ومنعت سياساته كذلك الزنوج ولحراطين من الإكتتاب أو الترقية في سلك الضباط داخل المؤسسة العسكرية كما شهد على ذلك السيد صالح ولد حنن إبَّان محاكمته بعد فشل محاولته الإنقلابية. سببت تلك السياسات التمييزية إحساس كبير بالظلم داخل المجتمع وتعالت أصوات مستنكرة مما جعل ولد الطائع يراجع سياساته حتى لا تعصف بوحدة وتماسك المجتمع.

          وفي ما بدى كاستجابة لضرورة إحداث التغيير الذي كان ولا يزال المشهد السياسي يتطلبه بإلحاح كشرط لا غنا عنه للتعايش السلمي بين مكونات الوطن والحفاظ على وحدته، أحدث ولد الطايع تغييرات تجسدت في تعيين وزير أول من شريحة لحراطين وقائد عام للأركان من نفس الشريحة كما عين قبل ذلك السيد سيد أحمد ولد باب، المنتمي لشريحة لمعلمين رئيساً للبرلمان. كان لتلك التغييرات وقع كبير بلسم جراح المغبونين وأخمد التأجج الذي طبع نبرة مطالبهم. شكلت تلك التوجهات ثورة على النظام المحاصصاتي الإقطاعي الذي كان ولا يزال معتمدا وامتصت الإحساس بالغبن والظلم الذي كانت تشكوا منه الفئات المهمشة؛ وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها تعيين وزير أول ( السيد السغير ولد امبارك) وقائد للأركان الوطنية (الهادي ولد السبت) من شريحة لحراطين.

         وإنصاف لولد الطايع وأمانة للتاريخ، لم تكن تلك التعديلات الجريئة، هي الأولى التي أحدث معاوية خلال فترة حكمه لصالح الفآت المهمشة، بل كان أول رئيس يعين في حكومته وزيرا من شريحة لحراطين، في أول حكومة له مباشرة بعد وصوله للسلطة : (الوزير مسعود ولد بلخير)؛ وكان الرئيس محمد خون ولد هيدالة هو أول رئيس يعين واليًا من هذه الشريحة : (الولي مسعود ولد بلخير). جاء الإنقلاب إذا ضد السياسات الإجتماعية القاضية بترقية الشرائح المهمشة أي ضد الحداثة و رفع الظلم مما نجم عنه تراكم الضغط جراء الاقصاء والغبن وتصاعدت حدة الخطاب المطلبي إلى أن وصل مستوى التأزم والتنافر ودق طبول الحرب والفتنة بين إخوة الثقافة والإنتماء.

          لم يكن الإنقلاب ضد السياسات الجائرة لولد الطايع ولا من أجل تحقيق العدالة والمساواة، إذ أن الذين أنقلبوا عليه كانوا الركائز الأمنية التي اعتمد عليها حكمه وكانوا هم أكبر المستفيدين من الفساد الذي استشرى في عهده؛ وتجلى ذلك في عدم سعيهم لمحاكمته وعدم تعرضهم له بأي شكل من أشكال المضايقات، بل أنهم أكرموه كل الإكرام حتى أنهم أرسلوا إليه كل الأمتعة التي خلفها في القصر الرئاسي بعد الإطاحة به. ينضاف إلى ما سبق، أن هذه المجموعة العصبية الانقلابية لم يسبق لها أن اعترضت على سياسات ولد الطايع الظالمة عندما قمع الزنوج بشكل دموي رهيب، ولم تعترض عليه حين قمع البعثيين والناصريين والإسلاميين؛ بل كانوا في حقيقة الأمر، هم من أوقعه في تلك الجرائم بتقاريرهم الاستخباراتية، التآمرية و المضللة التي كانوا يعدونها له؛ كما لم يعترضوا عليه عندما كان يوزع الثروة البحرية السمكية والأراضي الصالحة للزراعة وقروض الصيد والقروض الزراعية على أرستقراطية القبيلة والضباط السامين ولم يعترضوا على حرمانه منها للمستضعفين.

          لم يعترض هؤلاء على ولد الطائع حين خلق طبقة من رجال الأعمال من بني عمومتهم وبني عمومته. لا لم تكن مشكلتهم مع ولد الطائع في المظالم التي اغترفها بأياديهم وحملوه وزرها، ولا في الفساد الذي عرفته أيامه، ولا في الإنسداد الدمقراطي الذي أنهك البلد، بل انقلبوا عليه حين أراد تصحيح سياساته وخافوا على مصالحهم الضيقة والأموال الطائلة التي نهبوا؛ وعندما أطاحوا به واستتب لهم الأمر لم يسعوا في إصلاح الإختلالات التي كانت قائمة، بل كرسوها، ولم ينهوا المظالم التي كانت سائدة؛ وعند ما حاول الرئيس المنتخب جراء الإنتخابات التي أنهت المرحلة الإنتقالية الأولى، السيد سيد محمد ولد الشيخ عبد الله حل المشاكل العالقة وبدء بتجريم العبودية وأعاد المبعدين وأراد حل مشاكل الظلم والغبن والإقصاء هبوا عليه كالعاصفة وأطاحوا به. إن هذه الزمرة الإنقلابية الرجعية التي تسير البلد اليوم لأسوأ من نظام ولد الطائع وأقل منه تقدمية، وأقل منه حكمة وأقل منه حنكة وأكثر منه فسادا.

           تتفاقم اليوم أزمة خطيرة ويلوح انسداد في الأفق، ذات الإنسداد الذي يطاردنا منذ زمن بعيد، وكل ما تحايلنا عليه انتصب أمامنا عنيدا يأبى الإنكسار مؤكدا أنه لا مناص من مواجهة الداء بإستعمال الترياق الأمثل والأوحد : العدالة والمساواة والتوزعة العادلة لثروات البلد، قبل أن تطبق علينا السماء. لا بد من حل مشكل الاسترقاق ومشكل الاقصاء ولا بد من محاربة التخلف ولا بد من تكريم الإنسان كما كرمه الحي السبحان. يشهد الحوار هذه الأيام بين الفئات الإجتماعية تصاعدا خطيرا وتكاد المواجهة تندلع من الفينة للأخرى، ولا شيء في الأفق ينبئ بالتهدئة، والخطاب السائد، خطاب التأزيم والتخوين. كل طرف يدفع باللائمة على الآخر، ولا أحد يتحمل المسؤولية كأن الجميع تعاطى لإغراق "المركب" في مشهد يستعذبه "الفرعون".

          لقد كنت معارضا لنظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع وسجنت في عهده ووضعت قيد الإقامة الجبرية في مدينة "بُومدَيْد" بسبب قيادة الإضرابات ومعارضتي الراديكالية لسياساته، وقد يستغرب البعض تلطيف خطابي اليوم نحوه، مع أن ولد الطايع أصبح من الماضي وأن ما سردته عنه شهادات للتاريخ لا غير؛ ولكن المكتوي بسذاجة النظام الحالي التي تهدد مستقبل البلد وتقوده للمجهول، تجعله يتباكي على حقبة كان كل شيء فيها يدار على حسابه ولكنها على الأقل لم تكن تحجب عنه الأمل، وكان يتسلل من عتمتها بصيص أمل بإمبثاق فجر جديد. أما ما يخيف في حقبة ولد عبد العزيز هو أن الشمس قد لا تشرق بعد ما تمت سرقتها.

           نهب ولد عبد العزيز كل شيء : تازيازت، أمسيأم، اسنيمْ، البترول وحتى خردة الحديد ومداخل صندوق دعم الرياضة والثقافة الذي تقتطع له نسبة مئوية من مداخيل الجمركة ويسيره هو من الرئاسة، ونافس رجال الاعمال حتى إفقارهم، وفرض له من خلال وسطائه عمولة في كل الصفقات. وفي المجال السياسي، لا يتوانى ولد عبد العزيز عن الزج بأخبث الأوراق والعزف على أوتار النار للبقاء في الحكم، فعندما هدده الربيع العربي أشعل الفتنة العنصرية في جامعة نواكشوط بين طلاب البظان وطلاب الزنوج، وأفتعلتْ المخابرات مواجهات بين طلاب الشريحتين كي يدب الخوف بين الناس حتى تنصرف أنظارهم عن المطالب السياسية ويصبح شغلهم الشاغل هو أمن البلاد والسلم الإجتماعي.

       وفي نفس السياق وزعت دوائره الإستخباراتية كتب الإنجيل في عرفات وفي زويرات وهولت محرقة إيرا لكتب اجتهاد تحمل آراء فقهية ليست مقدسة وتبنيها اختياري محض وليس إلزامي. نظمت مسيرات للتنديد بتلك المحرقة برعاية عملاء الإستخبارات واستقبلها ولد عبد العزيز نفسه عند بوابة القصر الرئاسي وتوعد وهدد وتعهد بإنزال أقصى العقوبات ملهما حماس الجماهير مؤججا عواطفهم، ولما انقشعت أزمته وولى عنه "الربيع" اصبحت وعوده وتعهداته أحلام نائم.

        إستقبل ولد عبد العزيز مسيرات قادمة من انواذيبو ومن كيهودي في القصر الرئاسي وأقيمت لها دعايات إعلامية على "المنبر الظلامي الرجعي" (التلفزة الوطنية) ومنح لأصحابها مبالغ مالية من خزانة الرئاسة تشجيعا لهم، ذلك لأنها كانت مسيرات مفتعلة لتأييد الدكتاتور. ولما انخدع البعض من اصاب النفوس البريئة بالمسرحية و ظنوا أن الرئيس صاغ للمطالب ومستعد لحلها، نظم الزنوج العائدون مسيرة إلى رئيسهم محسنين به الظنون، وبعد ما قطعوا مسافة ما يقارب أربعة مئة كلم من مدينة بوكي إلى انواكشوط استقبلهم بالقنابل المسيلة للدموع وبالضرب والتنكيل لا لشيء إلا أنهم جاؤوا بمطالب يبحثون عن من يصغي لها؛ ثم لم يكتفي بضربهم وأرسل عملاء له من الزنوج مهمتهم اختراق المسيرة والاعتداء من داخلها على المارة من البظان ولحراطين لتتحول القضية الى فتنة عرقية بين الزنوج وباقي المواطنين، ولولا فطنة الناس ومسالمتهم لانفجر الوضع حينها.

        اليوم، تعاد المسرحية ذاتها على نفس الخشبة وبنفس الديكور ولكن بإخراج أسوء، أُبدلت فيه مسيرة المبعدين بمسيرة حراس، كهول وعجائزة ساروا حافيين الأقدام قاطعين مسافة أطول هذه المرة، تزيد على ست مئة كلم، من ازويرات إلى انواكشوط لأنهم سمعوا أن بها ملك لا يظلم عنده احد! تحملوا العناء ولم ينتظروا الزاد ولا المطايا حتى لا يؤخرهم الإنتظار عن ملاقات منقذهم "رئيس الفقراء". كانوا يحسبون أنهم هم الفقراء المعنيين باللقب الزائف، وأن رئيسهم أختطف عليهم من لدن سكان انواكشوط، فتهافتوا مسرعين إليه ليخلصهم من ظلم المستعبدين الذين يضطهدونهم، وعندما وصلوا اعتاب مرفأ الرئيس نُبِحوا. سمعوا النباح فتوقفوا على اعتاب المدينة ينتظرون أن يأتي رئيسهم ويزيح عن طريقهم كلاب المستعبدين التي اعترضتهم لمنعهم من لقائه. مساكين انتمْ يا أعمامي، إن الذي نحبكم هو الرئيس نفسه، ولكنكم لا تعون؛ إمكثوا ها هنا وأسألوا أهل "تيفيريت" عن عطر القمامة الذي هداهم والذي حول قريتهم إلى جحيم وحينها ستفهمون.

        عندما لم ييأس "أعمامي" الحراس من دخول انواكشوط، رابطوا عند بوابتها مستلهمين "رباط" جدهم إبن "تَاشَتْفِينْ"، وعند ما أصبح الوضع محرج لسيدي الرئيس، إلتمس مخرج اغذر من القمامة التي أبتلى بها أهل "تيفريت"، فإذا به يتصدى لمسيرة حقوقية سلمية مرخصة، بعد اجتيازها مدينتي كيهيدي وبوكي بسلام، يعترضها على اعتاب روصو فيقمعها بوحشيته المعهودة ويزج بأهلها في السجون. هنا أيضا يعزف على أوتار النار ليشغل الرأي العام عن مسيرة "الحراس" هنا يجازف بأمن ووحدة البظان ويحاول تأجيج حرب "البسوس". لا، لن نتحارب، ولن نتشاجر، ولن نتخاصم ولا حتى نتجادل، سيتنازل بَعضُنَا للبعض عن مطالبه ونعف عن الشكليات حتى تبقى وحدتنا هي الأسما. سنصلح ذات بيننا ونتنازل جميعا عن الإمتيازات والمطالب ونطرحها أرضا، ولا نأبه ولا نهتم إلا بوحدتنا، التي هي الإمتياز الفعلي والأهم الذي يجمعنا والذي من دونه لا استقرار ولا حياة ولا هناء. سنكون كلنا زنوج وفي ذات الوقت، وكلنا بظان، وكلنا حراطين، وسنواجه صفا من يريد فرقتنا وتهديد سلمنا لأنه لا خيار لدينا، وإن لم نفعل فلن نأمن، وحينها سيكون علينا أن نخشى على مستقبلنا!

         إنني لأخشى أن لا تنجو بلادنا من حكم المترف الذي تأمر عليها، وأخشى - حاشى لله - أن يكون الله أراد تدمير قريتنا بسبب الفساد والظلم الذي أفشاه فينا مترفنا لما تأمَّر علينا واستخفنا فأطعناه إلا ثلة من مؤمني آل فرعون آلوْ أن لا يطيعوا فرعونا ولا هامانًا! فرق بين بيضنا وسودنا، وهدد وحدتنا وأمننا واستقرارنا وهدوأنا، وهاهو اليوم يدق آخر مسمار في نعش مجتمعنا. تعالت المطالبات بالعدالة من شدة ظلمه وارتفعت حدتها إلى أن بلغت حدّٓ التطرّف فلم يصغي ولم يستجيب، ولم يسعى قيد انملة لتخفيف حدة الأزمة وفك الإختناق كأنه يتعمد شد الحبل لينفجر الوضع وتندلع حرب عرقية يحترق فيها الشعب وتجعل البلد قاعا صفصفا!

25. نوفمبر 2014 - 7:38

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا