رؤية لحادثة فرنسا / المختار ولد حماده

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على نبينا وحبيبنا وعلى آله وصحبه وسلم
قرأنا هذه الأيام مقالات عن حادثة الأربعاء التي زلزلت حصون البغي في  فرنسا فأقرت عيون الأحرار وأرَّقت جفون الأشرار . وقد أورد بعض من كتب عن هذه الحادثة شبها تغمز في وعي من  سرَّته هذه الواقعة أو كان يتمنى وقوعها. 

وليس هؤلاء الكتاب مظنة تهمة فيما دون هذا من نظريات الدين فضلا عما هو من ضرورياته فأغلبهم دعاة إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة مهتدون بالهدي النبوي لا يجهلون ما لذلك المقام من واجب المحبة والتعزير والتوقير فذلك ما لا يختلف فيه مسلمان ولله الحمد 
إلا أن اجتهادهم في هذه الجزئية أداهم إلى ما لا نوافقهم عليه ونرجو أن يكونوا معذورين مأجورين غير مأزورين وسندعم رؤيتنا للواقع في تلك النقاط الخلافية بأدلة من الكتاب والسنة درءا للشبه وتحصينا للأفكار وقبل ذلك نورد نقطتين ليستا محل خلاف:
-    لا يختلف المسلمون في أن تعظيم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب نصرته وإيثاره على النفس والأهل والناس أجمعين ليست محل مساومة ولا معادلة. 
-    لا خلاف أيضا في حرمة قتل الأبرياء وظلم المعاهدين وإشاعة الفوضى والعنف والكراهية بين الناس.
** التشكيك في مشروعية الحادثة والفرح بها:
لا يخفى أن المسلمين ليسوا من بدأ بالإساءة في هذه الواقعة، ولم يسيئوا قط إلى أمة بهذا العدد الهائل.
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا.   ولو نسام بها في الأمن أغلينا
وأن هؤلاء الرسامين ومن مالأهم هم الذين فتحوا الباب على مصراعيه لزعزعة الأمن وأوقدوا فتيل ما يعتبرونه "إرهابا" وولَّدوا في نفوس المسلمين كراهية وحقدا عليهم ولم يحصل من حكوماتهم سعي ظاهر لإخماد الفتنة.. فلم تفعل فرنسا مثلا يوم سخر هؤلاء كما فعلت حين سخرت مجلة "هاراكيري" من الجنرال ديغول فاتهمتها السلطات الفرنسية بالإساءة إلى الذوق العام وقامت بإغلاقها ثم قامت "شارلي" على أنقاضها.
وقد شهد بذلك شهود من أهلهم.
فقد قال بابا الفاتيكان إن فرنسا مسؤولة عن ما وقع لشارلي لأنها لم تكفها عن جرح مشاعر الناس ومعتقداتهم وضرب لهم مثلا على ذلك.
وقال أحد مؤسسي المجلة إن مديرها الهالك ساقها إلى حتفها سوقا بتسيير من الدوائر الصهيونية وأنه كان يتوقع حدوث ما حدث. وقد غادر المجلة منذ سنوات.
وقد تم تجريد "ريجيس بولين" رئيس قسم تحرير نشرات الأخبار في القناة الثالثة التابعة للحكومة الفرنسية من منصبه لأنه لم يعتبر أن مقتل الرسامين يستحق كل هذه العناية.
فإذا كان هؤلاء المستهزئون وأعوانهم ظلموا أنفسهم ومزقوا أجسادهم وروَّعوا ذويهم بما ارتكبوا تحت مظلة "حرية التعبير":
فليس بمعهود لضارب نفسه/    وإن جلَّ ذاك الضرب أن يتألما
وكذلك ليس بمعهود أن لا يفرح المسلمون بما يبتلي الله به أعداءهم الأفاكين. وقد قضى الله - ولا راد لقضائه - أن فرنسيين قتلوا فرنسيين في قلب فرنسا فكف الله أيديهم عنا. وهو شأن فرنسي داخلي لا يحق لنا التحقيق فيه والحكم عليه نيابة عن السلطات الفرنسية التي هي المسؤولة عن الفصل بين مواطنيها فيما شجر بينهم .
ولا ينبغي لمسلم مكلوم في هذه الحادثة أن يرضى في التعليق عليها بأقل من قول أبي سفيان يوم أحد " أما إنكم ستجدون  في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ....أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه"
ومن قول عنترة بن شداد :
فإن يبرأ فلم أنفث عليه.       وإن يفقد فحق له الفقود.
ولو فرضنا أنا شققنا عن قلوب هؤﻻء الفتية واطلعنا على نياتهم فوجدناها فاسدة فقد ينصر الله دينه ونبيه بالرجل الفاجر ' ولعلكم تعرفون بلاء قزمان الكافر يوم أحد. (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فلا حرج في الفرح بذلك أبدا (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ)
أقول له لمــّا أتانِي نَعِيُّه    /    به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا
مع أن المسلمين سواء في الحقوق!! فليس من الإنصاف أن نحجب فرحة المظلومين في أنحاء المعمورة رعيا لطمأنينة من يقيمون ببلاد الغرب على ذلة ومهانة، فلا أعظم ذلة من أن يستهزأ بآيات الله ورسوله على مرأى ومسمع ولا أحد منهم يشجب أو ينتصر. 
** يصفونها بالجريمة والافتيات:
العجب كل العجب من مسلم يصف هذه الحادثة التي نزلت بساحة هؤلاء المسيئين المستهزئين بالإجرام أو الافتيات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمير بن عدي لما قتل عصماء اليهودية التي كانت تسب الإسلام وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت الله ورسوله يا عمير" "لا تنتطح فيها عنزان" وقد قال له عمير قبل هذا أعلي في ذلك شيء ؟ وهذا يدل على أن عميرا لم يكن استأذن النبي صلى الله عليه وسلم على قتل عصماء.
وقال صلى الله عليه وسلم "من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله" وكذلك فُعل بابن خطل وجاريتيه والنضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، وجماعة ذكرهم عياض في كتاب الشفا ( 2/ 221- 222) وليست القضايا المأثورة من ذلك محصورة في قضية كعب بن الأشرف وأبي عزة كما روى بعض من كتب عن هذه الحادثة.
أما صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الإيذاء بل وعفوه عن من أساء عليه فهو غالب والشواهد عليه كثيرة عقد له القاضي عياض فصلا في كتاب الشفا. لكن ذلك حق للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يعفو عنه وليس لنا نحن أن نسقطه ولا أن نقره ما وجدنا إلى ذلك سبيلا قال إمامنا مالك: ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها؟
** قالوا: جاءت الواقعة بعد أعوام من نشر الرسوم، ولم تكن في ظرفها المناسب لأنها صادفت اعتراف فرنسا بدولة فلسطين وكانت سببا في ارتداد بعض المسلمين وستحدُّ من نشاط الدعوة.
أما كونها بعد أعوام فلا أثر لطول العهد في تخفيف هذه الإساءة. فالكلوم هنا لا تعفو والحقوق بالتقادم لا تبطل..
وكونها في الشهر الذي أعلنت فيه فرنسا اعترافها بفلسطين وأنها أدت لارتداد بعض المسلمين..إلى آخر ذلك. علينا أن ندرك أن الغرض من الدعوة ورعاية قضايا الأمة الإسلامية هو إرساء قواعد الدين وحمايتها من التبعية للتغيرات والآراء البشرية (مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) وليس المرتدون بسبب هذه الحادثة أول من ارتد ولا أكثر.فقد ارتد بعض المسلمين لما حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراء قال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) وارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير حتى اشتهر ما يعرف بحروب الردة. 
وليس الداء اليوم في قلة المسلمين بل الداء في "الوهن" الذي نزل بهم وفي الحديث (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قلنا أمن قلة بنا يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) 
ثم إن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ، وليس من أهداف الدعوة ولا من مقاصدها المشروعة تلميع صورة الإسلام عند الغربيين على حساب الذب عن حرمة جناب النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس من الدعوة أن نتنازل عن واجب من ديننا ليُسلم أي أحد، بل واجبنا أن ندعو للإسلام على وفق الكتاب والسنة، والتوفيقُ بعد ذلك من الله. فلا يتوهم أن نكون أحرص على هداية الناس والرحمة بهم ممن بعث رحمة مهداة للعالمين وقد قيل له (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)
ويشهد لذلك أن وفد ثقيف لما قدم المدينة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم الصلاة قال: لا خير في دين لا صلاة فيه وأن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر فأبى كل ذلك وسألوه أن يترك لهم صنمهم اللات ثلاث سنين من مقدمهم له فأبى، ثم سألوه سنة فأبى، حتى سألوه شهرا واحدا وأرادوا بذلك ليدخل الإسلام في قومهم ولا يرتاع سفهاؤهم ونساؤهم بهدمها فأبى. (السيرة الحلبية 3/ 304- 305 ) ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي ملك اليمامة بكتاب يدعوه فيه للإسلام فكتب هوذة: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك وأجاز سليطا وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو سألني سيابة (قطعة أرض) ما فعلت باد وباد ما في يديه فمات هوذة كافرا ( السيرة الحلبية 3/356)
** قالوا: حققت الجريدة مكاسب مادية حيث طبعت منها في اليوم التالي ملايين النسخ ومكاسب معنوية منها تعاطف العالم وإغراء السفهاء على التطاول.
..تلك نفقات باهظة على سلع غير نافقة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) والله ما ربحت تجارتهم. فقد فقدت هذه المجلة كل رساميها المحترفين، وتولت جريدة "ليبراسيون" رعاية أيتامها بإمداد من الحكومة الفرنسية وتتلقى دعما ماديا على شكل تبرعات تجمع بطريق تسول دولي.
وقد امتنعت الصحيفة الدنماركية التي كانت سبقت إلى هذه الرسوم من إعادة نشرها وقال مديرها إنه مسؤول عن عمال مجلته وليس مستعدا لتعريض حياتهم للخطر.
ورفضت الصحافة الأمريكية نشرها أيضا فدل ذلك على حصول التشريد لمن خلفهم.
أما اتساع نشر "قديد" تلك الرسوم فليس له وقع ولا رقع.. بل هو مجرد ما يعرف عندنا بـ "اتجوجين" بدأت سحابته تنقشع فقد قال الصحفي الشهير فرانك فيران في مقال كتبه تحت عنوان "هل قدرنا حق التقدير تداعيات تصرفاتنا؟: إن فرنسا التي تضحك الآن ملء شدقيها سوف تبكي سريعا وبحرقة ولن تتحمل تداعيات تجاهلها لمشاعر مليار ونصف مسلم وقال إن حمل جواز سفر فرنسي أصبح بحد ذاته جريمة. 
وكونها جمعت عليهم من كان لا يوافقهم من عقلائهم جوابه ما قال بعضهم:
ما هي إلا حمر مستنفره        بال حمار فاستبال أحمره
مع أن التعاطف معهم الآن لا ينبئ عن تغيُّر في الرأي ولا صدق في العاطفة بل هو أمر يمليه التجاذب السياسي كما هو شأن بعض الساسة من المسلمين..
فكل هذه الأمور لا أثر لها في ما يجب علينا من إعلان النصرة والذب عن الجناب النبوي بكل ما أتيح لنا من الوسائل. وقد روى ابن عبد البر بسنده أن شعراء المشركين لما هجوا المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم فقال حسان أنا لها (نيل السول 189) فلم يراع النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على هجو المسلمين لكفار قريش من تضاعف الهجو والتطاول والتمادي على السباب والابتعاد من الدين بل ندب الشعراء إلى النصرة بالشعر. 
** قالوا: لحقت المسلمين أضرار منها: هدم المساجد واعتداءات جسدية وتهديد لمصالحهم:
هذه الأضرار الواقعة أو المتوقعة مما يوجب على القادر الهجرةَ عن تلك البلاد إلى بلد لا ظلم فيه. 
قال ابن حجر عند باب "لا هجرة بعد الفتح": أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة. الثاني قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم. الثالث عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر (فتح الباري 7/ 646) ولم يكن الخوف على المستضعفين في مكة ولا على الأقليات المهاجرة لأرض الحبشة حاجزا دون الدعوة بأساليبها المتاحة. لكن على الأئمة أن يقنتوا بنجاتهم وتفريج كربهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل (اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها سنين كسني يوسف)
وقد قال تعالى (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) فلا يجوز للمؤمن أن يذل نفسه:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى        وفيها لمن خاف القلى متحول
أما اليوم فعلى القائمين على الأنشطة الدينية والدعوية من علماء وخطباء ودعاة أن يجتهدوا في تعليم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه معه لينفخوا في ضمائر المسلمين روح الإيثار وعدم الرغبة بأنفسهم عن نفس النبي صلى الله عليه وسلم عسى بسبب ذلك أن تتضح الرؤية في عالمنا الجديد المليء بالغيوم والدخن. ورضي الله عن سيدنا عبيدة بن الحارث حين قال يوم بدر وقد قطعت قدمه: لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق بقوله:


كذبتم وبيت الله نسلم محمدا    /    ولما نقاتل دونه ونناضل.
ونتركه حتى نصرع حوله/        ونذهل عن أبنائنا والحلائل

27. يناير 2015 - 10:02

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا