أيها الشباب... هدئ من روعك.! / عبد الله ولد أحمدو

في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة بدأت هذه البلاد تعيش فترة استثنائية تميزت ببروز الكثير من الأزمات وفي كل الميادين تقريبا وبدا أن المجتمع يتغير تدريجيا ويتجه نحو تغير جذري مرده تغير الكثير من قيم المجتمع، وأجمع الكثير من المنظرين حينها على أن الأسباب الرئيسية لتدهور قيم المجتمع هو الامساك بزمام

 الأمور من طرف طبقة شائخة تربت في ظل نظام ولد الطائع على نمط معين وفي ظرف يشجع ممارسات كانت إلى عهد قريب تعتبر عارا وشنارا في مجتمع محافظ كالمجتمع الموريتاني وتم تدجين كل الطبقة الموجودة في السلطة حينها على أسلوب حياة لا بقاء فيه لغير من يمتهنون التزلف ومحاباة الحاكم وفي مقابل ذلك يتغاضى لهم عن الممارسات المشينة التي يمارسونها في إطار الوظائف الموكلة إليهم وساد نوع من القواعد الإدارية الجديدة ترتكز على مسايرة الممسكين بزمام الأمور في كل ما يقومون به من فساد دون أن يكون لمهاراة الموظف أي دور فيما يفترض أن يقوم به من أعمال لذا اقتصر وجود الأشخاص في الإدارة على طبقات معينة من الموظفين في أغلبها طبقة شائخه وتم في الغالب تحييد الشباب عن الولوج إلى المرافق العمومية إلا من يقبل بالدخول وفق شروط ذلك المشهد و تم الاعتماد طيلة فترة التسعينات وبداية الألفينيات (إن صح التعبير) على اكتتاب المتعاقدين عبر الطرق الملتوية التي تستخدم في غالب الأحيان عوامل القرابة والمحسوبية في اختيار من يتم اكتتباهم وتم تحييد نظام المسابقة في الولوج إلى كثير من القطاعات الوزارية باعتباره غير مضمون النتائج ولا يمكن في الغالب تحديد هوية الداخلين الجدد إلا بتكلفة كبيرة تلجئ السلطة إلى التدخل بشكل سافر ومفضوح في سير المسابقة  وهو ما يسبب إحراجا كبيرا في غالب الأحيان ويفضل عدم اللجوء له ما دام الاكتتاب المباشر متاحا ويمكن لكل أمين عام وزارة اكتتاب من يرتضيهم وبدون التقيد بأية ضوابط، عبر مجرد إفادة انجاز خدمة Certificat de Service fait يتم ارسالها إلى المالية ويتم اعتمادها كوثيقة اكتتاب على أساسها يصرف راتب دائم للمعني ويصبح جزءا ممن يديرون الشأن العام. ولكم أن تتصوروا ذلك الواقع الذي أنتجته هذه الوضعية فالجميع أتى بطريقة معينة والجميع يعرف أن فلانا أتى به فلان وبالتالي فهو محسوب عليه ويتحكم فيه بطريقة ما وبالتالي سيسير على نفس النمط الذي يراد له أن يسير عليه.

استمرت الإدارة على هذا النهج عقدين من الزمن وصارت تسير من سيء إلى أسوء وشاعت فيها أنواع غير مسبوقة من نهب المال العام والتسيير الإداري الأعمى وتطورت أساليب الرشوة والمحسوبية وأصبحت قواعد ثابتة في تسيير الشأن العام وما يخالفها استثناء يؤكد القاعدة وبلغت هذه الممارسات أوجها في نهاية حقبة ولد الطائع كان الانطباع الشائع هو أنها ممارسات ونوع من التسيير للشأن العام خلقه نظام ولد الطايع وتجذر في فترة حكمه الطويلة نسبيا لكنها ستنتهي بمجرد سقوط نهذا النظام.
لذلك حين سقط نظام ولد الطايع كان التركيز في كل السياسات التي رسمت على الاهتمام بالكادر البشري المؤهل والقادر على إعادة الأمور إلى نصابها وكانت من أهم التوصيات التي خرجت بها الأيام التشاورية هي اكتتاب أغلب القطاعات الإدارية للكثير من الأطر عبر نظام المسابقة وتخرجت دفعات كبيرة وبالطبع كانت كلها شبابا نظرا لاشتراط عمر أقصى لدخول الوظيفة العمومية وبالفعل كانت الإدارة في أمس الحاجة إلى ذلك لأنها إدارة شائخه وأغلب العاملين فيها إما تقاعدوا أو في طريقهم إلى ذلك خصوصا في قطاعي المالية والداخلية المهمين, وتم بموازاة ذلك سنة 2009 توقيف نظام الاكتتاب المباشر بالطرق التقليدية من دون المسابقة، وبالفعل أصبحت كل القطاعات تقريبا تعج بالطواقم الشابه وأخذت مواقعها في تسيير الشأن العام لكن الملاحظين للشأن العام من داخل الإدارة لا يلاحظون تغيرا جذريا بحجم هذا التغير في الطواقم بل يلاحظ أن الخلف سار على نهج السلف، فماهي الأسباب والمبررات التي ترغم الموظفين الشباب وهم يمسكون بمفاصل الإدارة على الاستمرار في نهج واقع طالما عانوا منه وانتقدوه ويعرفون جيدا آثاره السلبية على كل مناحي الحياة؟
طرحت هذا السؤال على كثير من الشباب العاملين في الإدارات وكانت إجاباتهم متقاربة وتصب في غالبها في منحى واحد وهو خوف هؤلاء الشباب من التهميش من طرف بقية الطبقة القديمة ممن يمسكون بمصائرهم المهنية، كما أن الضغوط الاجتماعية التي تعتبر من لا يساير النهج السائد مجازف و(منفوش) وقد يدفع الثمن غاليا ويجد نفسه معزولا ومرميا في سلة المهملات وبالتالي ليست هناك فرصة للشاب الموظف في الثبات على تطبيق تلك النظم والعنتريات التي تلقاها طيلة مشواره الدراسي وتمليها عليه النصوص القانونية والتنظيمية التي يعتقد أنه دخل الإدارة طبقا لها وعليها يجب أن يخطو كل خطواته، لكنه سرعان ما يصطدم بالواقع الإداري ويقف أمام خيارين إما مسايرة هذا الواقع والخنوع، بل واستخدام طاقاته الشبابية في ابتداع أقصر الطرق للوصول إلى أكبر قدر من الاستقادة وفي أسرع وقت (أغلب محصلي المالية المحتجزين في قضايا فساد هم حسب علمي شباب) وكذا تطوير أساليب التملق والتزلف (عبر الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي) وبشتى الوسائل لضمان البقاء والاستمرار في المناصب الإدارية والتدرج فيها، وهو ما نتج عنه ظهور طبقات شبابية موظفه نشطه في هذا المجال خلافا لما كان سائدا في حقبة ولد الطايع حين كان الأمر شائعا بين المتقدمين في السن. الخيار الثاني أن ينزوي الشاب الموظف في زاوية قصية لا له ولا عليه ويحاول أن يطبق فيها عنترياته وقواعد لا أحد يطبقها إلا على سبورات المدارس المهنية أو في الفترة المسائية حين نخلد للنوم .
السؤال الموالي والذي علينا الإجابة عليه، وهو السؤال الجوهري، لماذا لا يمكن للشباب وهم أغلب من يعمل في الإدارة اليوم تغيير هذا الواقع ووضع قواعد جديدة لسير الإدارة بدلا من مسايرتهم لقلة ممن عايشوا الفترة الماضية وتربوا في معمعانها ؟ ونتسائل كذلك لماذا هذا الخوف من التهميش الذي يتملك الموظفين الشباب ويجعلهم مرغمين على الخنوع والذوبان في واقع كان كل واحد منهم ينتقده قبل الانغماس فيه؟.
أعتقد جازما أن طبقة الموظفين الشباب تمثل اليوم نسبة معتبرة ممن يقومون على الشأن العام لكن عليها فقط أن تنتبه وتدرك أنه عليها أن تتحمل مسؤولياتها وتصبر على الآثار الجانبية لترتيب الأوراق وأخذ مسؤولياتها التاريخية اتجاه مجتمعها وأخذ زمام المبادرة من داخل الإدارة ويعمل كل فرد منها في الهامش الذي يشغله على تغيير واقع الإدارة وأن لا يتملكه الخوف من تبعات ثباته على القواعد التي تعلمها ويرى أنها تخدم هدفه في تغيير واقع الإدارة وإعادتها إلى مسارها الطبيعي الذي كانت عليه قبل ذلك التدهور العارم لكل القيم المجتمعية والأعراف الإدارية وعلى (الشباب الموظف) أن يعلم أن ذلك التدهور -وإن كان أحدث نتائج كارثية على كل المستويات- إلا أنه استغرق فترة من الزمن ليتجذر وبالتالي فإن استئصاله لا بد أن يستغرق فترة من الزمن هو الآخر قد تكون أطول أو أقصر حسب المجهود والوسائل التي سنتخذها ومدى صبرنا على تبعاته وآثاره الجانبية، لكن قبل كل شيء احساسنا بالمسؤولية عن تغييره وتنحية كل الخوف جانبا. حينها وحينها فقط سنحول الإدارة إلى إدارة شابة ليس في طواقمها فقط كما هو الحال بل في سلوكها وأدائها ومظهرها العام.

18. فبراير 2016 - 21:27

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا