لأسـمـاء المتغيرة.. فـاتحةُ الرواية الموريتانية / المصطفى ول متالي

ينتابك شعورٌ غامض بالجراءة و الجسارة حين تجدك تحاول – عبثا -  كتابة مقال عن عمل لقامة سامقة في سماء الأدب العربي الموريتاني أحرى إذا كان ذلك العمل يعد منعطفا جديدا في تاريخ الأدب الموريتاني و مبشرا بميلاد جنسٍ أدبي جديد ، ليسامحني الروائي الشاعر العميد أحمدُّ ول عبد القادر

 أن أدون بضع أسطر عن باكورة عمله الروائي و فاتحة الرواية الموريتانية : الأسماء المتغيرة .
تبدأ الرواية بتلك الجملة القصيرة "كان ذلك في سنة 1891" التي تجعل القارئ ينتقل بذهنه إلى ذلك الزمن البعيد و يستعد لمواكبة قطار السرد القصصي المستقصي لمسيرة بطل الرواية ، ذلك القطار المنطلق مع تلك القافلة الطويلة التي  يجلس على جمل فيها  طفل صغير ، يبدو خائفا يترقب ، كان اسمه موسى يعيش سعيدا آمنا مطمئنا قبل أن يُختطف فإذا به في هذا الخضم ، و قد صار اسمه سلاك ، و هـا هو يسلك فجاجا لم يدر في خلده أن سيسلكها يوما ، و ها هي أطياف القديم تهجم عليه قبل أن يحدث ذلك التحولُ الدرامي حين تسمرت عظام الرجال و شخصت عيونهم عند رؤية ذلك المخلوق غـداة "معركة الأضاة" ، ثم إذا به بعد فترة يرعى قطيع أبل في مجتمع من الزوايا في غضون تحضيرات سيده عبد الصمد للزفاف بـزينب بنت الشيخ حمود بن المرابط ، و ذات يومٍ من أيام الرعي العادية و بينا هو في خلوته و "أصابعه تتحرك حول ثقوب الناي الصادح برقة الآمال الجريحة و الأحـلام المنتعشة ، رأى راعية .." فبدأت قصته مع ريحانة قبل أن تُغتال قصتهما في تلك الغارة الانتقامية من عبد الصمد ، و إذا هو بعد خمسة عشر عاما و قد صار اسمه مبروك يرعى قطعان الإبل فوق الهضاب التيرسية ، و ذات يوم شتوي بارد و بينا هو يعزف الناي بيده مستمتعا بعذوبة ألحانه الشجية المنسابة في الهواء الطلق رأى راعية ، فكانت ريحانة ، و لكن و بعد هنيهة يبتسر الفراق لقاء الحبيب فيبقى لحم الأرنب على حاله و نأي الحبيب طريحا منسيا ..!
كل ذلك كاف لأن يمرَض مبروك ، و تضطرم في أحشائه لوعة تجعله يفكر بالفرار حين يخرج من هذه الوعكة ، و لم يدر في خلده و هو يرسم الخطة أن أيامه حبلى بالمزيد من المعاناة ، و هذه المرة تولى كبرها ذلك الضيف "الحجاب" ، و بعد تلك الأحداث المثيرة تتقاذفه أمواج الحياة العاتية إلى قرية الصادين على شاطئ بحر الظلمات و قد صار اسمه "بوجناح" ، و بعد سنوات من الانخراط في حياة الصيادين يقذفه حظه العاثر هذه المرة إلى تسع سنوات من السجن في أطار و قد صار يدعى "سيفيل  بوجناح" ، ثم منه إلى بعض الأعمال الشاقة في خدمة الجنود الفرنسيين ثم حدته عصا الترحال بين افديرك و أطار و القوارب و أخيرا استقر به النوى في ازويرات  و قد صار اسمه في الوثائق الرسمية "سالم بن سليمان" ، و وجد من يحنو عليه بعد كبرته و ضعف شيخوخة من أبناء بررة وفروا كل ما يلزمه و أبعد من ذلك علموه القراءة و الكتابة ، وسموه بـ"بابا الكبير" ، و في لفتة وفاءٍ منه لمن أحسن إليه يشد الرحال إلى مدينة انواكشوط  و هنالك صار "باب الحكيم" قبل أن يسدل الستار على حياته الحافلة بالمعاناة و المعاني و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة و ينطق بكلمات مترعة بـالدلالات : هل سينجح أبنائي في القضاء على العذاب ؟ ، إنهم يحبون معذبي الأرض ..، بضعا و تسعين سنة ..، ولدت حـرا و أمـوت ..!
نجح الكاتب في أن يسوق الأحداث سوقا خلابا يجعلك مرغما على متابعة ما في الصفحة القادمة ، و نجح كذلك في أن يذكي فضول القارئ ليعرف ما سيحدث لاحقا ، بحبكة روائية فذة و بمعجم أدبي رصين ، و خبرة و فنية عـالية ، و وردت في الرواية تلميحات و إيحاءات أدبية أديبة إلى كثير من التفاصيل المثيرة في حياة الناس و المجتمع في موريتانيا بدءً  بجلب الرقيق و حياة السيبة  و يوميات "الهنتاتة" ، و العلاقة بين مجتمع الزوايا و مجتمع حسان ، و حتى أيام الاستعمار و المقاومة و أعطى  صورا واضحة و كاشفة لتفاصيل الحياة في حواضر ذلك الزمن و كيف كانت حالة الناس ، و عن علاقتهم حتى بالجوار ، و عن نهاية الاستعمار و بداية عهد الدولة ، إضافة إلى إرهاصات خطى الدولة الوليدة ، و تلك الأحداث المثيرة في عقدها الأول .
الأسماء المتغيرة إذن وثيقة توثق جزءً مهما من حياة أهل هذا المنكب طيلة ما يقارب القرن ، و تعالج مشكلة الهوية ، و أصول بعض المشاكل العالقة حتى اليوم ، و تطلع الناس إلى الحرية و العدالة الاجتماعية ، و هي مشبعة بالرموز و الإيحاءات التي لا بد لها من قارئ مخضرم ليعرف ما وراءها ، و ليستمتع بها ، و ملاحظٌ مواكبة معجم الرواية للزمن الذي يحدث فيه الحدث منها ، و يبرز ذلك جليا في الفصول الأخيرة حيث الحديث عن الحرية و الدولة و المهرجان ،  و وراء عنوانها و شخصية بطلها و نوعية الثيمات التي لامسها العمل السردي  ما يشي بكثيرٍ من مدلوليتها و قيمتها التاريخية و حتى المستقبلية و قد  كتبت بقلم خبير بالتاريخ و المجتمع .
لم تندرس الرواية أدبيا بعامل التقادم حتى و هي – كما تقدم – فاتحة الأدب الروائي في موريتانيا و عليه يكون الأستاذ العميد أحمدُّ  - فضلا عن كونه رائد الحداثة و التجديد في الشعر الموريتاني – رائدَ الرواية الموريتانية بلا منازع ، و استطاع أن يشق لأدبها مكانا مرموقا في علياء الأدب بعيدا عن الأغـراض التي تلامس – عادة – هوى الجمهور ، بل بمضمونها الهادف و قيمتها الفنية الرفيعة .
و لئن كان الدكتور ول اباه قد قال عن ظهور الشعر الموريتاني : "في القرن الحادي عشر دوت فجأة أصوات المصاقع بأشعار امتازت بجزالة اللفظ و إحكام التراكيب ، يذكرنا أصحابها بعهد المتنبي و ابن هانئ .." ، فإنه يحق لنا أن نقول على ذات المنوال في ظهور الرواية : "في مطلع القرن الخامس عشر دوت فجأة أصوات المصاقع بروايات امتازت بجودة السبك و روعة السرد ، يذكرنا أصحابها بأفضل الروائيين عربيا و عالميا" .
و من حسن حظ الرواية الموريتانية أن تكون "الأسماء المتغيرة" فاتحة لها مما يوحي بنضجها في طور الولادة ، تماما كما كان مع الشعر الفصيح ، لتكون هي و هو ككل شيءٍ في هذه الصحراء العالمة و هذه الحضارة الراحلة خارج إطار القياس .

11. فبراير 2017 - 13:53

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا