الكلام على الكلام: وقفة قصيرة مع المتنبي / الشيخ ولد باباه اليدالي

 سوف أقوم – في هذه السطور – بمساءلة مقطع قصير للمتنبي في ضوء النقد الثقافي، وما تقترحه منظومته وأدواته الإجرائية من إبانة لـ"لقيم الثاوية" وكشف عن "المضمرات النسقية" التي تكتنزها النصوص الأدبية ذات الجماهيرية العريضة كنصوص المتنبي 
 يحسن بنا قبل الانطلاق أن نشير إلى أن النقد الثقافي ينتمي إلى منظومات الما بعديات: (ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية)، ويمكن القول بأنه جاء كرد فعل على المناهج النصانية المغلقة؛ إذ هو يستحضر السياقات المختلفة كالسياق النفسي والاجتماعي والسياسي...، وهو من ثم منهج مفتوح تتجاوب فيه أصداء المناهج الأخرى على تنوعها وتباين خلفياتها... 
 مقطع المتنبي الذي سيدور حوله الحديث هو التالي: 
أحق عاف بدمعك الهمم ...... أحدث شيء عهدا بها القدم 
وإنما الناس بالملوك وما..... تفلح عرب ملوكها عجم 
لا أدب عندهم ولا حسب..... ولا عهود لهم ولا ذمم 
بكل أرض وطئتها أمم....... ترعى (.....) كأنها غنم!  
 بهذه الأبيات الأربعة يصدّر المتنبي أحمد بن الحسين قصيدة له في مدح علي بن إبراهيم التنوخي، وهذه الأبيات تمثل – في نظري – ما يسميه الدكتور عبد الله الغذامي الخطاب المعارض أو النسق المخاتل؛ حيث إنه من وجهة نظر النقد الثقافي هناك جدلية المتن والهامش، وكل ثقافة يتجنّد حماتها وسدنتها لحماية "المتن" والذود عنه؛ لأن ذلك هو ما يضمن لمؤسسة الثقافة أن تظل كاملة السيادة، وأن تظل خطاباتها متغلغلة في نفوس الرعية؛ غير أن "مؤسسة الثقافة" بالرغم من ذلك تظل منزعجة من خطاب الهامش والمقموع الذي يظل يدب كدبيب النمل ويراوغ حتى يهشّم "المتن" ويكشف ألاعيب الثقافة وحيلها الماكرة في تمرير أنساقها الموبوءة 
 متن الثقافة في زمن المتنبي وربما في أزمنة وعصور مختلفة لا تزال ماثلة إلى اليوم تقترح تمجيد الحاكم وتأليهه ووصفه بكل أوصاف الكمال مهما كان تافها وساقطا ولا أهمية له، وهذا يفترض أن يأخذ الصوت الهامشي والمقموع دور المصحح فيعيد الأمور إلى نصابها، ويهشم مثال المتن حتى يعود صاغرا إلى المكان الذي لا ينبغي أن يتجاوزه 
 قد يكون المتنبي متناقضا؛ حيث يحمل الخطاب الهامشي هنا مع أنه أحد سدنة الثقافة المدافعين عن قيمها وعن أنساقها الرسمية، هو كحامل قلم لا يمكنه إلا أن يكون كذلك وإلا فمن أين له تلك الجماهيرية؟ أما المتنبي المثقف والمفكر وصاحب التجارب... فكان عليه أن يبتعد عن المواضعات الفكرية والأدبية التي نصطلح عليها بالأنساق الخبيثة والتي تؤمن بتأليه الحاكم، وتؤمن بالتعالي على الناس والوقوع في أعراضهم وغير ذلك من المعاني القدحية التي يضج بها شعر المتنبي وغيره من الشعراء 
العصر الذي عاش فيه المتنبي لم يكن بخير من الناحية السياسية فكانت الدولة العباسية متشظية، وكانت هناك دويلات متخاذلة وكان هناك نفوذ لا تخطئه العين للعنصر الأعجمي سواء داخل الدولة العباسية في بغداد التي كانت بمثابة المركز، أو في الدويلات الأخرى التابعة لها اسميا لا غير! في هذا العصر قامت ثورات وكانت كلها تحركها أيد أعجمية، وفي أجواء كهذه تكونت لدى المتنبي ما يشبه أيديولوجية عروبية؛ فآمن بحق العرب في مزاولة الحكم ما دامت الرعية غالبيتها عرب؛ ومن هنا اقتنع بسيف الدولة الحمداني العربي الصريح صاحب الدولة الحمدانية في حلب، ومن هنا – أيضا – أرسل شذرات في شعره هنا وهناك تنم عن هذا التوجه الأديولوجي، والمقطع الذي بين أيدينا شاهد على ذلك 
 ولعل البنية الدلالية لهذه الأبيات تشير إلى "نسق ظاهر" يمكن توزيعه على البؤر التالية: 
1-    التحسر على الهمم الكبيرة، ونعيها، وإعلان اختفائها بين الناس 
2-    إعلان أن أمور الناس إنما تستقيم بأولي الأمر، ومن ثم يجب أن يكون الحاكم ابن الشعب؛ فلا يصلح – مثلا – أن يكون شعب عربي بحاكم أعجمي، ويجيز المتنبي لنفسه – هنا – أن يتحامل على هذا الحاكم الأعجمي أو هؤلاء الحكام العجم؛ فهم – في نظره – بلا أدب، وبلا حسب، وبلا عهود، وبلا ذمة، من الواضح – إذن – أن هناك انجرافا قويا من المتنبي تجاه المنحى العروبي الذي أشرنا إليه من قبل إلى الحد الذي جعل بعض الدارسين يتهمه بالعنصرية 
3-    إخبار من المتنبي بأن كل أرض وطئتها قدمه وجد مواطنيها كقطعان الغنم يرعون بواسطة أعجمي أو...، طبعا الشاعر يتحدث عن بلاد العرب والمسلمين فقط 
 وإذا أردنا أن نقوم بعملية إسقاط لهذه الأبيات على واقع المسلمين الراهن نجدها غير بعيدة من واقع الشيء؛ فالمسلمون اليوم يحكمهم حكام من بني جلدتهم، ولكنهم دمى يحركها الأجانب متأمركة طورا متصهينة طورا آخر، وكل شيء يمكن أن ينتظر منهم إلا أن يكونوا في مستوى تطلعات وآمال شعوبهم، هم يحكمون شعوبهم لمصلحة الأعداء؛ ولذلك فأقل ما يقال عنهم إنهم عملاء 
 يبقى المتنبي أحمد بن الحسين – كما قال عنه ابن رشيق القيرواني – "مالئ الدنيا وشاغل الناس" وصاحب النماذج الشعرية الكثيرة الصالحة لكل زمان ولكل مكان؛ نظرا لما تختزنه من "قيم ثاوية" تتجاوب مع وجدان الإنسان في كل عصر وطور 

 

الشيخ ولد باباه اليدالي/ مفتش تعليم ثانوي وأكاديمي
   
 

 

6. septembre 2024 - 13:20

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا