محاكمة عزيز، بين فهمه وفهمنا/ محمد محمود ولد بكار

عندما تكون صحة محمد ولد عبد العزيز أو حياته في خطر، يجب وقف المحاكمة فورا  والتوجه لعلاجه. تلك مسؤولية القضاء شرعا وقانونا وأخلاقا. إن القضاة، في النهاية، مسؤولون مسؤولية مباشرة عن حياته، وهو في عهدة القضاء. كما من غير المعقول أن لا نصرف له راتبه. إن على القضاء أن يتصرف حيال ذلك .
القضاء في النهاية مكون من شخصيات موثوقة، ويعرفون مسؤولياتهم. وإذا لم يتحملوها، فإن ذلك  يرجع إليهم وحدهم وسيدفعون ثمنه على أية حال، فهم ضمن سلطة مستقلة ومحمية بالدستور . وهكذا أيضا يجب أن نستمع  لموقفهم من موضوع صحة محمد ولد عبد العزيز.
القضاء لا يمكن أن يكون مسؤولا وغير مسؤول في نفس الوقت، أي مخولا بالتحكم في حرية ومال شخص،  ولا يكون مسؤولا أو مخولا  في نفس الوقت باتخاذ تدابير علاجه، ولا تمكينه من حقوقه التي لم يتعرض لها القضاء مثل موضوع الراتب. لماذا حتى داخل قاعة القضاء يتطلع الناس ببصرهم إلى الخارج، وكأنهم ينتظرون قرارا من وراء القضاء. إننا نحجب عن القضاء مسؤوليته ونحمل أخطاؤه وعدم التزامه بصلاحياته  لغيره. وهكذا يظل وضع الموضوع بين غزواني وعزيز  خروجا عميقا عن سياق المحاكمة وعن قراءة صحيحية لها وللنتائج التي يمكن أن يحققها الشعب الموريتاني والمسار الديمقراطي والعدالة  نفسها من هذه المحاكمة السابقة في البلد. إننا بصدد قراءة مقلوبة لدرس المحاكمة . إن الهدف المنشود من هذه المحاكمة ليس زهق الروح، بل تحقيق العدالة، وعلى نحو يتماشى مع  أخلاق المجتمع، فلا نكاف في ذلك. و هو أيضا موقف الشعب الموريتاني وفق تقاليده .
1-عود على بدء
المحاكمة السارية في موريتانيا هي الأولى من نوعها عربيا وفي شبه المنطقة.  وهذه فرادتها. وجميع المؤسسات الوطنية، سواء السياسية أو القضائية، تواجه تجربتها الأولى في العملية مع غياب التخصص والخبرة والتجربة. 
في الدول العريقة، وعلى نحو قياسي، ظل سركوزي، في فرنسا مثلا، قيد المتابعة القضائية أزيد من عقد من الزمن، مع أن سلسلة التقاضي الفرنسية والطبقة السياسية وهياكل الدولة على تشبع بمحاربة الفساد ومتخصصة فيه،  والقضية المثارة حينها تتعلق ب"تلقي ساركوزي لرشوة أو مساعدة خارج القانون من القائد القذافي لدعمه في الانتخابات" أي ليست معقدة لهذه الدرجة بينما ويوجه عزيز أمثر من خمس تهم  وعدة ملفات . وهنا يجدر تكرار هذه المثلبة، أي غياب التخصص في قضاء بلدنا وشرطته وبرلمانه ومؤسساته حيال موضوع الفساد .
وهكذا تأخذ محاكمة محمد ولد عبد العزيز  طريقا طبيعيا جدا بالنسبة للوقت والوقائع، بينما أيضا يأخذ مسار دفاعه، سواء محاميه أو ما يثير هو في دفاعه، نسقا طبيعيا في تجييش المشاعر واستخدام جميع الأوراق النفسية والسياسية والإعلامية والقانونية والملف الصحي  لمصلحته. وهذا مشروع ومقبول، بل أن البراعة في تحقيق الحرية أو تخفيف الحكم للمتهم من وراء ذلك .وهكذا  تتبنى هذه الاستراتيجية الإفراط في استخدام مفردات السياسية مثل أنها محاكمة سياسية من أجل تحييده من الواجهة  والضغط على مشاعر الجمهور والقضاة  وتحريك خواطر الرأي العام بالملف الصحي من أجل كسب تعاطف أوسع للتأثير على القضاء والسلطة السياسية ومحاولة ادخال الرئيس الحالي في الملف وتلطيخ سمعته وسمعة  الجميع حتى تكون العملية عبثية .
وبالعودة للمحاكمة،  فقد كانت النخبة السياسية المعارضة، من سياسيين وصحفيين بالدرجة الأولى، هي من طالبت بمحاكمة ولد عبد العزيز حتى حينما كان في السلطة. لقد كان الضغط كبيرا على السلطة الجديدة عندما اصبحت المحاسبة هي المطلب الأساسي والشرط الأول لقبول التعامل مع السلطة الجديدة حتى بالنسبة لمن تم استغلالهم من الأغلبية من خلال النظام حينها. كان هناك إجماع صامت وشبه اجماع معلن، خاصة لدى من يحرك دفة السياسية والإعلام، بضرورة محاكمة عزيز. وكان ثمة زخم وتحمس غير مسبوقين حتى داخل الاغلبية نفسها. هل كان بإمكان غزواني حمايته؟. نعم ولا، في نفس الوقت، وذلك ليس بمعنى القدرة أو عدم القدرة، بل بمعني الظروف والثمن والمآلات والقدرة على دفع الفاتورة . كان بامكانه أن يمنع محاكمته، لكن مقابل ثمن لا يمكن للبلد أن يتحمله، وهو العيش  بين نارين كلتاهما حارقة. أولاهما أن يُسير غزواني، خارج أي شرعية، تركة عزيز التي جعلت البلد على حافة الهاوية سياسيا واقتصاديا على نحو  لا يمكن أن تصمد أمامه سلطة جديدة، حتى عزيز، رغم شغفه  بالسلطة، لم يستطع تغيير الدستور رغم انه كان بامكانه ذلك نتيجة لأنها لم يعد مقبولا شعبيا ولا عسكريا .
أما النار الثانية فهي ان يظل غزواني، وخارج اي اتفاق مسبق، يسير ضمن السيناريو الروسي "مدفيدف" . كانت الخلاصة واضحة لغزواني، فليس بالإمكان المجازفة بالبلد لأجل حماية شخص يسحب بقوة من تحتك  البساط، بل وجميع وسائل السلطة حتى حمايته شخصيا، ويدفعه بلا هوادة  أن يظل رئيسا فارغا من معنى الرئاسة ومن دون أي سلطات مما يؤول به لإعلان العجز والسقوط. ويكون شخصيا عبثيا  في النهاية .وهكذا، عندما باشر غزواني ممارسة السلطة، وجد وضعا اقتصاديا شديد التعقيد لا تمكن معالجته ولا التفرغ له في وضع سياسي ملتهب وخارج الشرعية السياسية والاجتماعية. لقد كان أمام خيار مواجهة مشكلات البلد والتستر عليها وابتلاع تبعات تسير عزيز الفرداني المشبع بالنوازع والنعرات البدائية وموجات الصخب  والصراخ. كان عليه، الحقيقة،  الاختيار بين أن يكون رئيسا  دمية ، أو  أن يترك البلد ينهار ويتهاوى على رأسه من جهة، أو أن يتحمل مسؤوليته حسب القسم الدستوري، ويتصرف كرئيس، ويتعامل مع مقتضيات الوضع التي لا مفر منها  .كان خيار التهدئة الذي يمر بالضرورة بالرضوخ لمحاسبة العشرية التي تجاوز سوء تسيرها للبلد كل الحدود، هو ممر العبور الإجباري لتحمل  المسؤوليات. وهكذا رضخ غزواني للمطالب الواقعية .
2-المحاكمة في نظر الشعب وفي نظر عزيز 
الديمقراطية الموريتانية رغم حداثتها، شهدت تطويرا وتراكما قطعه محمد ولد عبد العزيز في جوانب مهمة، وكان من أهمها أن نظام فصل السلطات واضح جدا فيها، وهكذا عندما تكون الارادة السياسية جاهزة للتغيير أو التصحيح  فإن القوانين محينة وقوية وصريحة بسبب الحوارات السياسية والإصلاحات الهيكلية وتصحيح المسارات. وهكذا تم وضع قفل على المأموريات. وكان التشريع يتطلب قراءتين للقوانين، كما تم توسيع صلاحيات البرلمان. لقد ظل توكيد هذه الاصلاحات هو الشرط الأساسي لتطوير مسارنا الوطني. وهكذا جاءت محاسبة عزيز بعد خروجه من السلطة كإحدى أهم شروط ضمان استقامة الرئيس أو بقائه في حدود صلاحياته القانونية اثناء ممارسة السلطة ، وهي بالتالي خطوة رائعة بالنسبة للمستقبل وغاية في الأهمية في شكلها وزمانها ومضمونها وتبعاتها .فقد كان عزيز رئيسا قويا متعجرفا أحاديا وفردانيا ويسير السلطة بعد ما تشبع بالقوة والغرور والنرجسية والنجاح عقب نجاح ثلاث انقلابات كان في قيادتها واستخدم السلطة حسب رغبته الشخصية .ثم أنه رتب السلطة، سواء الحزب أو المؤسسة العسكرية والأمنية، على احتمال عودته السهلة للسلطة، وحتى أنه تبني خيار عرقلة سير المؤسسات من خلال فكرة الانقلاب التي خامرته. وهكذا تكون محاكمته درسا عظيما وتاريخيا لكل رئيس يصل سدة الحكم في البلد، وتجعل الرئيس نفسه يحدد مساره بعد خروجه من السلطة بأن يظل  ينعم بالحرية أو أن يكون وراء القضبان وحيدا أيضا يفتقر لأي مدافع سوى محيطه  الضيق أو محاميه .لقد تحقق هذا الهدف بصفة عميقة ودقيقة. وهذا هو النجاح المؤسساتي الأول، وهو أيضا تجربة أساسية بالنسبة للمؤسسات الوطنية سواء التشريعية أو القضائية أو السياسية. وبهذا نتعقد أن عزيز حصل على 90% من جزائه، وأنه سياسيا خسر اللعبة، وخسرها عالميا من خلال وجود اتهامات مشينة لصيقة باسمه في محركات البحث، كما أن سلبه مبدئيا من كل ماله لدرجة عجزه عن تسديد دراسة  الأبناء نتيجة مريعة بعد هذا الغنى الفاحش  .
عاش الشعب ..  عاشت تجربتنا الديمقراطية..   فقد حققنا  أعظم نتيجة من هذه المحاكمة، ويبقى على القضاء أن يقوم بعمله بمهنية عالية وبتأثير ضغط الضمير والوازع الديني والأخلاقي، لا غير. وهكذا يجب ان لا يتحول النجاح في محاكمة عزيز إلى اخفاق . 
أما فهم عزيز لهذه المحاكمة، فيعتبرها انقلابا على شرعيته وتصفيته   سياسيا، لأنها حطمت  طموح عودته للسلطة  الذي خطط له وفق مسارات بعضها عسكري وسياسي، وأنها استهدفته من بين جميع روساء البلد، وأنه هو من أسس لهذا النظام الموجود حالا في السلطة، وأن أعداءه  السياسين هم من استخدموا خلفه وصديقه ضده في هذا المسار الظالم .ولد عبد العزيز يتجاوز الحقائق على الواقع ليسبح في هذه البنبة الخيالية ويريد، جاهدا، إقناع الرأي العام بها من خلال تكرارها .  لقد نسي أنه انتقل من موظف براتب صغير إلى أحد أغنياء البلد دون ممارسة تجارة ودون الخروج من الوظيفة لمارسة أي عمل حر، بل أنه لم يستخدم راتبه الذي كان يمنحه كله لزوجته. لقد طفح الغنى !!! لم يتذكر عزيز  أنه ترك البلد بديون تتجاوز دخله العام السنوي104%  وتمثل الكهرباء فيها 40% من نسبة الديون في حين  تنقطع الكهرباء بصفة منتظمة عن بعض الأحياء، ولا تدخل في الصناعة ولا في الزراعة باستثناء مزرعته التي كانت الوحيدة في البلد من تأخذ الكهرباء من دون عداد بينما يتطلب ادخال الكهرباء 12 مليون أوقية لأي مزرعة عملية غير اقتصادية البتة . لقد وضع في طرف  كل البيوتات التي تحتضن الروساء، ضيوف القمم، مولدات  كهربائية  منفصلة ومستقلة تحسبا لانقطاع الكهرباء   .
كما أن كل هذه الديون تم تلخيصها في 3مستشفيات وجامعة  وبعض الطرق وغيرها من الأمور التي لا تعكس ولا تبرر ديون بقيمة خمس مليارات دولار، لكنها تتضمن عمولات وتشغيل معدات وصفقات التراضي وغيرها وتضمن دعاية ناجحة . وبعيدا عن الغوص في التفاصيل، فقد تحول جميع أفراد الأسرة الذين يرفلون حالا في النعم إلى ميسورين، وكان من بين ذلك الصهر الذي تم إحصاء إمكانيات له بقيمة 9 مليار أوقية في رمشة عين .
وعلى المستوى السياسي، فقد كان البلد على كف عفريت، وتم توقيف كل المسارات العقلانية والقانونية والمؤسساتية في البلد.لقد تم دفن مؤسسات كبيرة لطمر حفر فساد كبيرة وعميقة (سونمكس، وأنير   والنفاذ الشامل  وغيرها ). لقد كان مسارا تدميريا مفعما بالشطط وعدم  البصيرة .كان البلد  على كف عفريت وكان المدخل الوحيد للعودة للسلم هو بناء الثقة في الدولة وفي استقلالية الرئيس الجديد عن تبني جنايات النظام الماضي، ولذلك كان لابد من الابتعاد عن مقتضيات النظام السابق، وعدم تحمل جريرته. لكن عزيز أراد لذلك أن يكون بالقوة .
عزيز في تجاوز لكل هذا، يعتبر أنه تعرض لخيانة نظام هو من أسسه، وهو مرجعيته ، وهو صاحب الشرعية الوحيد في البلد، وأن الطبقة السياسية وكل أهل البلد ليسوا سوى اتباع له.  لقد كانت للأسف تلك هي نظرته لجميع أمور الحياة .إن عليه أن يتحمل مأزقه الشخصي بصبر وشجاعة كما عليه أن يعرف أن هناك معلومات لم يتم الإدلاء بها كما لم يتم تسريبها وبذلك مازال يحافظ على بعض التعاطف .
فمن الرزية عذل من لا يرعوي عن غيه ….
 

 

30. décembre 2024 - 6:53

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا