المزايا التي يمنحها المصرف لعملاء الحساب الجاري من المنظور الشرعي / د. رقية أحمد منيه

الحمد لله مولي النعم، وكاشف الغم الذي جعل جلاء الجهل بالعلم، كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم في الأموال وغيرها، لئلا يبغي أحد على أحد، وحض على حظر الانتفاع بشيء منها إلا بالرضا القائم على المفاعلة، فقال في محكم التنزيل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط الله المستقيم سيد ولد آدم محمد النبي الأمين القائل:{إنّ خِياركم أحْسَنكمْ قَضاءً}، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أهل الصدق الغر المحجلين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر واليقين.

وبعد؛ 

فقد أُعدَّت هذه الورقة العلمية، في إطار الإسهام ولو بإثارة النقاش العلمي بشأن مسألة فقهية بنكية تتناول إشكالات قائمة وناشئة، قد تكون عقبة كأداء في طريق تحقيق تعامل يتوافق مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، ألا وهي اشتراط شروط تفضي إلى جمع بين عقود متفرقة في المعنى تصريحا أو تلميحا أو تطبيقا، بصفة تتداخل معها الغايات وتختلط الوسائل، بحيث يتعذر تمييز الخبيث من الطيب،إلا بقيد التفريق بين العقود وعدم اشتراط أحدها في الآخر، من باب الزيادة غير المشروطة لا عرفا ولا نطقا، بحيث لا يوجد مفهوم أو منطوق لعملية الجمع، وقد حددت الدراسة المتعلقة بالورقة العلمية في مرتكزات ثلاث؛ العرض والتحرير والتحقيق، مع تبيين حدود الدراسة توصلا إلى خلاصة البحث.

 تهتم الدراسة بتناول الإطار المحدد للمعاني، وتفكيك التراكيب وفق المناهج العلمية المقررة، بغية الوصول إلى المقصد الأسمى من بيان حكم الشرع بشأن تعلق عقد من عقود المعاوضات (بيع المنافع)، بآخر مغاير يكيف على أساس القرض الذي يرد عند الطلب، والبحث عن مخرج شرعي، يمكن صاحب الحساب الجاري من المزايا المقبولة شرعا طبقا لقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في المسألة والمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.

مختصر الدراسة:

العقود المشروعة تجوز بشرط توفرها على الضوابط الشرعية لها من أركان وأحكام، وجواز العقود منفردة قد يتغير حكمه إذا اجتمع العقد مع عقد آخر يختلف معه في المقصد والمعنى، فإذا انعقدت كل معاملة بشكل منفصل، وبدون اشتراط الترابط، أو تضمين تعلق إحداهما بالأخرى، كانت الصحة أقرب إليهما معا؛ لاشتمالهما على الضوابط اللازمة لإبرام العقود المركبة، وكذا المعايير المتطلبة لصحة الجمع بين العقود المتنافرة في المعنى، ومن ذلك فتح حساب مضاربة منفصل عن الحساب الجاري، أو منح مزايا لصاحب الحساب الجاري غير مقترنة بحجم المبالغ المالية الموجودة تحت التصرف أو مدة الإيداع.

العرض والتحرير 

بناء على النظر في الأدلة الشرعية التي تجعل الزيادة المشروطة ممنوعة شرعا قليلها وكثيرها، وتجيز غير المشروطة من باب حسن القضاء والاقتضاء ؛ إذ الربا محرم مهما كان قدره، كثيره وقليله، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ يقول بعض أهل التفسير: إن قوله تعالى: ﴿ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ ليس قيدا ولا شرطا، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان عليه الحال في الجاهلية، إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله و كثيره، فإن قليل الربا يدعوا إلى كثيره، فالإسلام حين يحرم الشيء يحرمه (كليا)».  

وبهذه الآية؛ استدل بعض فقهاء المالية الإسلامية المعاصرين على حرمة الفائدة الربوية البنكية مهما كان معدلها؛ فهي حرام سواء أكانت بسيطة أم مركبة، فالفائدة البسيطة فائدة على توظيف رأس المال، والفائدة المركبة فائدة على تأخر السداد فيزداد عداد الفائدة. ويضاف إلى حرمة عقود مبادلات الفائدة بجميع أشكالها، وكذا الزيادات المشروطة على أصحاب الحسابات الجارية، وما قد ينشأ من عمليات قلب الدين.

أما الزيادة غير المشروطة فلا ضير فيها لحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فقال: لا أجد إلا خيارا، فقال:{ أعطِه إيَّاهُ فإِنَّ خِيار النَّاسِ أحْسَنهُمْ قضَاءً} . رواه مسلم.

والعمل في الحديث أصل في الجواز؛ ولكن بشرط عدم الاشتراط السابق؛ فعن الإمام مالك، أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود، كان يقول: { مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا، فَلاَ يَشْتَرِطْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ، فَهُوَ رِبًا} يقول الإمام ابن عبد البر:« ولو أسلف ذهبا أو ورقا فقضاه أجود وأزيد من غير شرط كان بينهما جاز ذلك» .

هذا الأمر صريح في جواز حسن الاقتضاء بقيد عدم وجود شرط سابق، فكل زيادة على أصل القرض لا تقتضي محاباة سابقة أو لاحقة تؤثر في عملية السداد، ليست محظورة شرعا، ما لم تكن توافقا مستترا على إتيان تصرف يمنع بذريعة مباحة ظاهرا، إما إن كان من غير مواطأة، ولم يقصد فيه غمط حق وأريد به منح مزية للتحفيز والتشجيع فهو باق على البراءة الأصلية، ولو كانت عروضا تسويقية تستقطب أصحاب الحسابات الجارية، وهو ما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن المزايا التي يمنحها المصرف لعملاء الحساب الجاري من المنظور الشرعي :« أما إذا كانت تعطي لكل عميل جديد يكسبه البنك- سواء أكان في الحساب الجاري أو حساب المضاربة أو في التمويل وغيره- فهي من نفقات الإعلان والتسويق، وكسب الزبناء والعملاء، وتكون مباحة تطبيقا للبراءة الأصلية، طالما أنها لا ترتبط بخصوص الإقراض وحجمه ومدته» .

هذا ويعتبر كل انتفاع مشروط أو متفق عليه ممنوعا وإن من قبيل الهدايا العينية أو الميزات المالية والأسلم إبرام عقد مضاربة متعددة، أو فتح حساب مضاربة منفصل عن الحساب الجاري، ولصاحبه الاختيار بين المضاربة المطلقة أو المقيدة بنوع محدد من الصفقات إذا رغب في تخصيص مجال استثماره بعيدا عن صفقات التورق ونحوها بأن كان في صفقات تجارية قائمة على اقتناء أصول إنتاجية مثلا، نحو شراء الأدوات لأصحاب المشاريع الإنتاجية.

يتطلب ذلك تحقيق المفاصلة بين العقدين، وتمايز تأثير أحدهما في الآخر، يقول البعض:« يجوز اجتماع أكثر من عقد في منظومة واحدة بدون اشتراط عقد في عقد، إذا كان كل واحد منها جائزا بمفرده، ما لم يكن هناك دليل شرعي مانع، فعندئذ يمنع بخصوصه استثناء». 

التحقيق 

إن ضابط المنع في العقود المركبة أو المجتمعة هو أن يؤدي تركيبها أو اجتماعها إلى محرم-فائدة ربوية،عينة-، بحيث تعود فيها المصارف والفروع والنوافذ المصرفية الإسلامية كمثل المصارف التقليدية، أو أكثر تعقيدا وكلفة، وهناك ضابط آخر عملي وهو أن تكون العقود المركبة أو المجتمعة عقودا متناقضة والصفقة إذا جمعت بين عقدين، اختلف في حكمها، عملا بالقاعدة الخلافية؛ « العقد هل يتعدد بتعدد المعقود عليه أولا؟؛ وعليه فالصفقة إذا جمعت حلالا وحراما، ومقارنة البيع للصرف أو النكاح أو الجعل أو القراض أو المساقاة أو الشركة، وأما القرض فبإجماع، فمن نظر إلى الاتحاد منع، لاختلاف أحكام المعقود عليه، ومن التفت إلى التعدد أجاز». 

مستند جواز اجتماع أكثر من عقد في معاملة واحدة إذا كان كل واحد منها جائزا بمفرده، ما لم يكن هناك دليل شرعي حاظر؛ أن الأصل بمقتضى دلائل نصوص الشريعة وكلياتها العامة حرية التعاقد، ووجوب الوفاء بكل ما يتراضى عليه المتعاقدان، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ويقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾. 

 ما لم يكن في ذلك تحليل حرام أو تحريم حلال، أو جمع بين متناقضين في المعنى؛ كالجمع بين معاوضة وتبرع، وذهب الإمام ابن تيمية إلى ذلك:«لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرعا مطلقا، فيصير جزءا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين» الاتفاق هنا على عدم المعاوضة معتبر، وكذا الخلو من المشارطة بالاتفاق مبيح، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فعقد المضاربة باق على أصل الحل إذا لم يرتبط بعقد القرض، وكونه منفذا من منافذ التجر لا حرج فيه، إذا سلم من نواقض السلامة وهي هنا جعل رأس مالها دينا في الذمة، أو اشترط لإمضائها زيادة في حجم الحساب الجاري. 

الخلاصة:

- منع الزيادة المشروطة على أصل القرض.
- حرمة الربا قليله وكثيره.
- التأكيد على إباحة عقد الصفقات المنفصلة؛ جوهرا وأثرا.
- جواز الزيادة غير المشروطة من باب حسن القضاء.
- جواز فتح حساب مضاربة منفصل عن الحساب الجاري؛ سواء أكانت مطلقة أو مقيدة. 
- جواز منح مزايا لصاحب الحساب الجاري؛ غير مقترنة بحجم المبالغ المالية الموجودة تحت التصرف أو مدة الإيداع. 

   والله أعلم بالصواب وعليه المعتمد.
 
 كتبته الفقيرة إلى عفو الله ورحمته د/ رقية أحمد منيه .

13. janvier 2025 - 20:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا