
تواصل السلطات الموريتانية جهودها في تنظيم الأسواق وإخلاء الشوارع الرئيسية والجانبية من الباعة المتجولين، في إطار سعيها لتحسين مظهر العاصمة وتسهيل حركة المرور. وكان آخر هذه الإجراءات إغلاق الشوارع الجانبية لسوق العاصمة "مرصت كبتال" أمام السيارات والباعة على قارعة الطريق، وهو قرار أثار جدلاً واسعًا بين مؤيديه الذين يرون فيه خطوة نحو الحداثة، ومعارضيه الذين يعتبرونه تهديدًا لمصدر رزق الفئات الهشة.
أولًا: مراحل تطور القرار.. من الإخلاء الجزئي إلى التنظيم الشامل
لم يكن قرار إخلاء الأسواق وليد اللحظة، بل هو امتداد لسياسات حكومية بدأت منذ أكثر من عقد. ففي عام 2012، أطلقت مجموعة نواكشوط الحضرية حملة لتنظيف الشوارع وإخلائها من الأكواخ والعربات والباعة العشوائيين، وشملت حينها مناطق السبخة، تفرغ زينة، والميناء. وقد ركزت تلك الحملة على إزالة الأسواق العشوائية التي تعرقل حركة السير وتساهم في تكدس القمامة وغياب الأمن.
بعد ذلك، شهدت نواكشوط حملات مماثلة، كان أبرزها إخلاء السوق المركزي (مرصت كبتال) عام 2017 بعد قرار وزيرة التجارة آنذاك الناها بنت مكناس، التي أكدت أن المبنى أصبح يشكل خطرًا على مرتاديه. استمرت العمليات بشكل تدريجي، وفي عام 2018 تم تنفيذ قرارات صارمة لإزالة المحلات العشوائية داخل السوق. واليوم، مع إخلاء سوق مسجد المغرب (سوسيم) وطرد الباعة العشوائيين، تتجه السلطات إلى مرحلة جديدة من التنظيم تهدف إلى تحويل العاصمة إلى مدينة نظيفة وعصرية.
ثانيًا: أهمية هذه المبادرات لعاصمة نظيفة وعصرية
تسعى هذه القرارات إلى خلق بيئة حضرية أكثر نظافة وتنظيمًا، حيث تسهم إزالة الأسواق العشوائية في:
• تحسين المشهد العام: تشكل الأسواق العشوائية نقطة ضعف في البنية التحتية للعاصمة، حيث تنتشر المخلفات والأكشاك غير النظامية التي تعيق التطور العمراني.
• تسهيل حركة المرور: تؤدي الأسواق غير المنظمة إلى ازدحام خانق في الشوارع الرئيسية، ما يعرقل تنقل المواطنين والمركبات.
• تعزيز النشاط التجاري الحديث: مع تنظيم الأسواق، تتاح فرص جديدة للتجار في الأسواق الرسمية، مما يساعد في تحفيز الاقتصاد المحلي.
ثالثًا: البعد الأمني.. بين الحد من الجريمة وضمان السلامة
من الناحية الأمنية، كان للأسواق العشوائية دور كبير في انتشار الجريمة، حيث زادت معدلات النشل والسرقة داخل الأسواق المكتظة. كما أن تكدس المحلات والبضائع العشوائية كان يعوق تدخل سيارات الإسعاف أو الإطفاء في حالات الطوارئ. إخلاء هذه الأسواق يسهم في:
• تقليل معدلات السرقات والنشل، التي كانت تتم بسهولة في الأماكن المزدحمة وغير المنظمة.
• تعزيز قدرة السلطات الأمنية على التدخل السريع عند حدوث أي طارئ.
• منع تكرار الحوادث المؤسفة، مثل الحرائق التي نشبت في بعض الأسواق الشعبية بسبب سوء التنظيم.
رابعًا: ماذا عن الباعة المتجولين؟ البحث عن بدائل عادلة
بينما تروج السلطات لهذه المبادرات باعتبارها خطوات نحو الحداثة، يبقى التحدي الأكبر هو مصير مئات الباعة الذين يعتمدون على هذه الأسواق لكسب قوتهم اليومي.
معظم هؤلاء الباعة هم من الأرامل، النساء المعيلات، الفقراء، وأفراد الطبقة الهشة الذين لا يملكون القدرة المالية لاستئجار محلات تجارية داخل الأسواق الرسمية. لذا، فإن أي خطوة نحو إخلائهم دون تقديم حلول بديلة قد تؤدي إلى تفاقم أوضاعهم المعيشية.
خامسا: ما هي البدائل الممكنة؟
لضمان نجاح هذه الحملة دون الإضرار بالفئات الهشة، يجب أن ترافقها إجراءات عملية تشمل:
• إنشاء أسواق شعبية منظمة في مواقع قريبة تتيح للباعة العمل في بيئة قانونية وآمنة.
• توفير أكشاك مرخصة بأسعار رمزية، يمكن للباعة تأجيرها بمبالغ معقولة تتناسب مع إمكانياتهم.
• دعم مالي أو تمويل مصغر لمساعدة الباعة المتضررين على بدء مشاريع صغيرة بديلة.
• تخصيص مساحات داخل الأسواق الرسمية للباعة الصغار، مع ضمان أسعار إيجار معقولة.
خاتمة: التنظيم ضرورة.. لكن الإنصاف أولوية
لا شك أن تنظيم الأسواق يمثل خطوة مهمة في سبيل تطوير العاصمة، لكنه يجب أن يتم بطريقة تراعي التوازن بين مصلحة المدينة وحقوق الفئات الهشة. نجاح مثل هذه السياسات يعتمد على مدى التزام الحكومة بتوفير حلول مستدامة للباعة المتجولين، بما يضمن لهم مصدر دخل يحفظ كرامتهم. فالتنمية الحضرية الحقيقية لا تقتصر على تنظيم الشوارع، بل تشمل أيضًا تحسين حياة الناس الذين يعتمدون عليها.