عن تفشي الفساد قبل العاشر من يوليو! / محمد الأمين الفاضل

هناك مُسَلَّمَة لدى الأجيال التي لم تصل إلى مرحلة الوعي في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله، أو تلك التي وُلدت بعد رحيله، مفادها أن الفساد لم يظهر في موريتانيا إلا بعد وصول العسكر إلى الحكم في العاشر من يوليو من العام 1978، يبدو أن هذه المسلمة ليست بتلك الدقة التي كنا نتخيلها سابقا.

صحيحٌ أن الفساد تفشى في بلادنا بشكل واسع بعد العاشر من يوليو من العام 1978، ولكن الصحيح أيضا أنه كان متفشيا في بلادنا من قبل العاشر من يوليو.

نعم، لقد كان الفساد متفشيا في بلادنا من قبل انقلاب 10 يوليو، وهذه حقيقة صدمتنا نحن الذين لم نواكب تلك الفترة، وذلك بعد أن حضرنا للحلقة الأولى من "صالون المدونين" التي تم تنظيمها يوم الأحد 16 فبراير 2025 في أحد فنادق العاصمة، والتي قدم فيها ضيف الحلقة معالي الوزير السابق سيدي ولد أحمد ديه، نماذج من ملفات فساد كان شاهدا عليها خلال مسيرته الثرية بين الإدارة والسياسة.

الحلقة النقاشية المفتوحة كانت عن "الفساد وآليات محاربته"، وقد تحدث فيها الضيف عن بعض ملفات الفساد التي كان قد استعرضها في كتاب من تأليفه، حمل عنوان: "قصتي مع الفساد"، وكان من بين تلك الملفات ملف فساد كبير في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه، وهو الملف الذي سنركز عليه في هذا المقال.

فساد كبير قبل العاشر من يوليو

تم اكتتاب سيدي ولد أحمد ديه مفتشا للضرائب في بداية العام 1974، وفي أول عملية تفتيش له استمرت لما يُقارب 45 ايوما لإحدى الشركات، اكتشف حالات تهرب ضريبي واسعة، بلغت قيمتها 42 مليون أوقية قديمة.

وبعد توليه لرئاسة قسم الضريبة غير المباشرة في إدارة الضرائب، اكتشف المفتش الشاب ملف فساد آخر، وكان ضخما هذه المرة، وقد نُهبت بموجبه 105 ملايين أوقية قديمة من أموال الشعب الموريتاني، وهذا المبلغ كان في تلك الفترة مبلغا ضخما جدا، وكان من بين الضالعين في عملية النهب هذه، وزيران للمالية، والمدير العام للضرائب، وبعض كبار رجال الأعمال.

ويكفي هذا الملف لوحده، للقول بأن الفساد كان متفشيا في بلادنا من قبل انقلاب العاشر من يوليو، ومن قبل وصول العسكر إلى السلطة، وهذا هو الاستنتاج الأول الذي سنختم به الفقرة الأولى من المقال.

الإرادة السياسية لوحدها لا تكفي

هناك إجماع واسع لدى الخصوم السياسيين للرئيس الراحل المختار ولد داداه من قبل مناصريه، على أنه كان رئيسا نزيها يستحيل أن يَمُدَّ يده للمال العام، بل على العكس من ذلك، فقد كان يُسلم ما قد يصله من هدايا، حتى ولو كانت شخصية إلى خزينة الدولة.

هناك أيضا إجماع آخر على أن الرئيس الراحل المختار ولد داداه كان جادا في محاربته للفساد، والشواهد على ذلك كثيرة، ولا يتسع المقام لتعدادها وبسطها.

تلك حقائق لا جدال فيها، ولكن يبقى السؤال: كيف وصل الفساد في عهد الرئيس الراحل المختار إلى هذا المستوى الكبير، وذلك رغم اتفاقنا جميعا على أنه كان رئيسا نزيها لا يمد يده للمال العام، وكان ـ بالإضافة إلى نزاهته واستقامته ـ يمتلك إرادة سياسية صارمة لمحاربة الفساد؟

وإذا ما اكتفينا بملف الفساد في الضرائب، والذي يُعدُّ ـ بالمناسبة ـ أول ملف فساد في تاريخ البلد يعرض على القضاء، فقد أظهر هذا الملف صرامة الرئيس الراحل المختار وجديته في محاربة الفساد، وقد تجلت تلك الصرامة في الإجراءات التالية:

1 ـ  منحه تهنئة مكتوبة للمفتش الشاب سيدي تشجيعا له على كشف الفساد في إدارة الضرائب، وقد نُشرت هذه التهنئة في يومية الشعب، وبُث نصها في الإذاعة الوطنية، وبالمناسبة فإن هذه التهنئة تعدُّ هي أول وآخر تهنئة يقدمها رئيس موريتاني لموظف حكومي؛

2 ـ إقالته للوزيرين الضالعين في ملف الفساد، مع إشعارهما بأن عليهما أن يكونا على استعداد للمساءلة والتحقيق؛

3 ـ إعطاؤه الأوامر لوزير الدولة لشؤون السيادة بتوقيف أي إجراء يستهدف المفتش سيدي ولد أحمد ديه مهما كانت طبيعة ذلك الإجراء، وقد أعطاه الأوامر بذلك بعد أن وصلته رسالة من سيدي وزميله حيدرة محمد شريف تتحدث عن إجراءات اتخذت ضدهما لإجبارهما كمفتشين للضرائب بإعادة أموال تحصلا عليها بشكل قانوني من الغرامات؛

4 ـ إعطاؤه الأوامر لوزير العدل باكتتاب محام من سلك المحامين في داكار لمساعدة وكيل الجمهورية في الملف.

5 ـ تأكيده في مجلس الوزراء بأن التحقيق في هذا الملف يجب أن يستمر، وأن لا يتوقف، حتى ولو وصل إلى الرئيس نفسه.

6 ـ اجتماعه بالمكتب السياسي لحزب الشعب وأعضاء الحكومة، ودعوته لأعضاء المكتب والحكومة للاختيار بين السلطة والمال، هذا فضلا عن سلسلة من الإقالات ذات الصلة التي قام بها في تلك الفترة.

7 ـ استدعاؤه لمكتب رجال الأعمال، وتوجيه الأوامر الصارمة بالتوقف عن تقديم أي دعم للدولة ومسؤوليها، مع ضرورة التزامهم التام بدفع الضرائب المستحقة عليهم لخزينة الدولة، وتسديد القروض البنكية.

لقد كانت لدى الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله إرادة سياسية صارمة لمحاربة الفساد، ومع ذلك فقد تفشى الفساد في عهده، وكانت لديه إرادة سياسية صارمة في معاقبة كل الضالعين في هذا الملف بالذات، ومع ذلك فقد تمكن الفريق القضائي المشرف على الملف من إبطاء المسار القضائي للملف، إلى أن وقع انقلاب العاشر من يوليو فسُجن الرئيس المختار، وسُجن كذلك المفتش سيدي بعد أن وُجهت له تهمة "الإساءة إلى القضاء"، وتمت إعادة الاعتبار للضالعين في ملف الفساد، حيث عُيِّن أحد الوزيرين الضالعين في الملف مديرا لديوان رئيس اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني!

من هذه الفقرة يمكن أن نخرج بالاستنتاج الثاني، والذي يقول بأن الشرط الأول والأساسي لمحاربة الفساد يتمثل في وجود إرادة سياسية قوية لمحاربته لدى رئيس الدولة، ولكن علينا أن نعلم بأن تلك الإرادة لا تكفي لوحدها لحسم الحرب على الفساد.    

حِيَّل المفسدين ونفوذ الدولة العميقة

عندما يُفتح أيُّ ملف فساد، يتحرك المتضررون المباشرون في ذلك الملف سعيا لإغلاقه من قبل الوصول إلى أي نتيجة، كما تتحرك بالموازاة مع ذلك الدولة العميقة التي تقف بشكل دائم في وجه أي عملية إصلاح، وقد أشار الوزير سيدي في كتابه، وكذلك في عرضه الذي قدم في صالون المدونين إلى نماذج من تحركات الدولة العميقة، حتى وإن كان مصطلح الدولة العميقة من المصطلحات التي يلفها بعض الغموض والضبابية.

هناك حِيَّلٌ معروفة يتبعها المفسدون منها محاولة رشوة المُبَلغ عن الفساد وكاشفه، أو تهديده، أو الضغط عليه من خلال الأهل والأقارب، أو تشويه سمعته، ومحاولة إظهاره بأنه لم يفتح ذلك الملف إلا لإلحاق أضرار بالآخرين، أو لتحقيق مصالح شخصية، إلى غير ذلك من الأساليب التقليدية المعروفة، وبعض هذه الأساليب التقليدية قد استخدم فعلا في هذا الملف، ولستُ بحاجة لذكرها في هذا المقام.

ومن المحاولات التي يُمكنُ أن نخرجها عن الحيَّل التقليدية المعروفة، وندخلها في دائرة جهود الدولة العميقة التي تقوم بها لوأد أي عملية إصلاح في مهدها، يمكننا أن نذكر:

1 ـ وصف المدير العام للأمن الوطني للرئيس المختار رحمه الله بأنه أصيب بالجنون، ولم يعد يعرف من يهنئ، وذلك بعد تهنئته للمفتش سيدي . لقد تمت إقالة هذا المدير قبيل الانقلاب، ولكنه عاد إلى نفس المنصب بعد ستة أشهر فقط، أعادته اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني؛

2 ـ  تحذير مدير الديوان للرئيس المختار رحمه الله، ومخاطبته بما يشبه النصح قائلا له: " سيدي الرئيس، إن تحريك هذا الملف والمواجهة في هذه الظرفية مع الشركات ورجال الأعمال سيكون بمثابة قطعك لآخر غصن قوي تقف عليه"؛

3 ـ على مستوى القضاء فقد تحركت الدولة العميقة أيضا، بعد دخول الملف في مسار قضائي. كان المسار الطبيعي المفترض للملف يقتضي أن يتم الاستماع إلى مدير الضرائب، ومدير الميزانية، ومدير الخزينة العامة، ومدير الرقابة المالية، ومدير البنك الذي فتح فيه مدير الضرائب حسابا بطريقة غير شرعية، والشركات التي دفعت أموالا في ذلك الحساب البنكي، هذا فضلا عن الوزيرين الضالعين في الملف.

أحيل الملف إلى وكيل الجمهورية، وكان أربعة من أقارب الوكيل مشمولين بالاتهام في الملف، ولتفادي مثول هؤلاء أمام القضاء، اتخذ الوكيل قراره بالمحاكمة المباشرة، وحدد لائحة بمن ستشملهم المتابعة القضائية، مستبعدا منها أقاربه الأربعة، واقتصر التحقيق القضائي على ثلاثة أشخاص فقط، هم مدير الضرائب والوزيران المقالان.

بعد ذلك أحال وكيل الجمهورية الملف برمته إلى قاض مقرب من مدير الضرائب، ومن أحد الوزيرين، ليبدأ بعد ذلك التلاعب بالملف من خلال محاولة القاضي توسيع دائرته فأضاف مفتشي الضرائب بدلا من إضافة المسؤولين والشركات المعنية بالملف، وذلك لإحراج النظام، كما عمل على إطالة أمد التقاضي إلى أن تم الانقلاب على المختار رحمه الله من قبل أن يصدر القضاء الحكم على المشمولين في الملف.

لا تتوقف مظاهر الفساد في القضاء في تلك الفترة عند هذا الحد، فقد ذكر معالي الوزير في مذكراته أنه لما أحيل إلى السجن المدني مطلع العام 1979، كان من حسن حظه أن وجد أحد أقاربه من النزلاء القدامى في السجن، وقد وفر له ذلك القريب السجين الحماية، فالنزلاء الجدد كانوا يتعرضون للضرب وسلب الممتلكات. وقد ذكر المؤلف في مذكراته أن السجن المدني كان يتحول في النهار إلى سوق رائج، تباع فيه المقتنيات الثمينة من ملابس عصرية وتقليدية وأحذية وساعات وعطور، وكل هذه البضائع هي حصيلة عمليات تلصص ليلية، كان يقوم بها بعض نزلاء السجن الذين يسمح لهم الحراس بالخروج من السجن ليلا للسرقة، والعودة فجرا بما سرقوا لبيعه وتقاسم عائداته مع الحراس.

المعارضة وإشكالية التعامل مع إصلاحات النظام

تحدث الوزير السابق سيدي ولد أحمد ديه في قصته مع الفساد، عن الدعم الكبير الذي كان يتلقاه من طرف حركة الكادحين، وبخصوص هذا الملف فقد أكد معالي الوزير في مذكراته أنه نوقش بشكل قوي داخل مراكز القيادة في حركة الكادحين، وكانت هناك وجهتا نظر حوله، فهناك فريق من قيادات الحركة يرى أن هذا الملف يعكس حالة فساد واسع ينخر نظام المختار، وأنه لا ينبغي للحركة أن تكون عونا للنظام، بل يجب عليها أن تتركه يتخبط في الفساد حتى ينهار بشكل كامل. وفريق آخر كان يرى أن الحركة حتى وإن كانت تُعارض النظام، فإن ذلك يجب أن لا يجعلها تتجاهل أي جهد يقوم بها النظام لمحاربة الفساد والمفسدين.

لم تبين المذكرات كيف حُسِم ذلك النقاش، ولا أي الرأيين تم اعتماده من طرف الحركة، ومهما تكن النتيجة، فإن هذا النقاش بقي قائما في صفوف معارضات الأنظمة المتعاقبة، وكانت الكفة تميل فيه دائما لصالح الفريق المعارض الذي يقول بترك النظام يتخبط في فساده حتى يسقط، ولكن اللافت هنا أن سقوط نظام المختار رحمه الله، لم يمكن المعارضة من الوصول إلى السلطة، وإنما أتى بنظام جديد من رحم النظام القديم، كان أكثر فسادا.

ولعل أهم ما قامت به حركة الكادحين بخصوص هذا الملف هي أنها حمته من أن تُعطى له تفسيرات عرقية، كما كان يُريد البعض، فقد ذكر الوزير في مذكراته، وفي مقام الإنصاف والإشادة، موقف بعض رفاقه في الحركة، من أمثال لادجي تراوري، ودافا بكاري، وسوماري عمار، والدكتور جاكانا يوسف، الذي كانوا من نفس المكونة الوطنية التي ينتمي إليها أحد الوزيرين ومدير الضرائب، ومع ذلك اتخذوا موقفا وطنيا نزيها،  بعيدا عن الانتماءات الضيقة.

ثمار الصمود على الاستقامة وعدم مد اليد للمال العام

يختم الوزير السابق سيدي ولد أحمد ديه مساره المهني بالقول: " وإذا كان كثيرٌ من رفاقي وزملاء الوظيفة والسياسة والفكر، ورفاق الأجيال السياسية التي أنتمي إليها، قد راكموا الأموال الكثيرة والعقار الشاهق من مال الشعب، وعن طريق الفساد الذي طال وامتد وترسخ خلال الستين سنة المنصرمة، فإنني أشعر بأن كسبي وربحي كان أكبر، إذ خرجتُ صفر اليدين من المال العام، أتقاضى مبلغا زهيدا نهاية كل شهر، لكنني ربحتُ راحة ضميري، ونقاء مسيرتي المهنية وسلامة عرضي، وجنبتُ أبنائي من أن يكونوا قد أكلوا في أي يوم من الأيام أوقية واحدة غير مستحقة. إنني أعتبر ذلك مكسبا عظيما، ولئن رآه آخرون "نفشه"، فهو بالنسبة لي شرف عظيم، ولله الحمد أولا وآخرا."

في الحلقة النقاشية لصالون المدونين تعرض سيدي لنقد قوي من طرف بعض الحضور، وذلك لأنه لم يذكر أسماء المفسدين الذين تحدث عنهم في مذكراته في مختلف محطات مسيرته المهنية، وهذا النقد لوحده يكفي للتأكيد على أهمية الصمود على الابتعاد عن المال العام، فهناك شخصيات ـ من أمثال سيدي ـ ابتعدت عن المال العام تُستضاف اليوم في الندوات للاستفادة من خبرتها وللاستلهام من تجاربها، وهناك شخصيات أخرى ولغت في المال العام، إذا ذُكِرت في نقاشات عامة حُجبت أسماؤها، خوفا من أن يكون ذلك تشهيرا بها وإساءة إلى أبنائها وأقاربها.

لماذا نبش فساد الماضي؟

هذا سؤال وجيه، ومن المؤكد أنه سيطرح من طرف بعض القراء، ذلك أن الحديث عن الفساد في الوقت الحالي، أولى من الحديث عن ملف فساد يتجاوز عمره نصف قرن من الزمن.

صحيحٌ أن الحديث عن الفساد الحالي أولى من الحديث عن الفساد القديم، ولكن الصحيح أيضا أن تقديم سير ملهمة في مجال محاربة الفساد قد يكون مهما للأجيال الحالية التي تناضل ضد الفساد، ثم إن هناك رسالة في غاية الأهمية حاول هذا المقال أن يقدمها للقراء، مفادها أن استقامة الرئيس ووجود إرادة سياسية قوية لديه لمحاربة الفساد لن تحسم لوحدها الحرب على الفساد، وخير دليل على ذلك هو ما تحدثنا عنه من تفشي الفساد في عهد المختار ولد داداه رحمه الله.

لن تُحسم أي حرب ضد الفساد، إذا لم يتوفر شرطان أساسيان، وهما وجود إرادة سياسية قوية عند الرئيس لمحاربة الفساد، ووجود نخبة واعية قادرة على خلق حلف شعبي واسع يدفع إلى تلك الحرب ويدعمها، وهذا الحلف هو ما دعونا في منتدى24 ـ 29 إلى ضرورة تأسيسه، في كل لقاءاتنا التي جمعتنا ببعض الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

معذرة على الإطالة، وإلى مقال قادم أعلق فيه ـ إن شاء الله ـ على النقاش الذي ستشهده الحلقة الثانية من صالون المدونين.

حفظ الله موريتانيا..
 

20. février 2025 - 13:53

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا