الخطاب الشعبوي.. ضرورة تواصلية في المشهد الموريتاني / الشيخ ولد المامي

مدخل: في فيلم "الكيف" الذي يُعد من علامات السينما العربية، يتجلى درس بليغ: الكاتب محمود أبو زيد يضعنا أمام حقيقة أن من يتحدث بلغة الشارع هو من يحصد ثقته، أما النخبة التي تتعالى بلغة معقدة، فإنها تظل غريبة عن شعبها، مهما كانت نواياها حسنة، والشعبوية أصبحت منهجا رائجا، تعطي للمغني الشعبي من الإمتيازات ما تحرم منه الباحث في علوم الكيمياء التطبيقية.

المقال: في ظل التعقيدات الاجتماعية والثقافية التي تميز النسيج المجتمعي الموريتاني، بات من الملح أن تراجع التشكيلة الحاكمة آليات تواصلها مع الشارع، وأن تعيد النظر في نوع الخطاب السياسي الذي توجهه إلى جمهور يعاني نسبة مرتفعة من الأمية، ويتعامل مع المواقف والأحداث من منطلق الوجدان الجمعي، لا من منطلق التنظير النخبوي أو الأدبيات السياسية المؤطرة.

لقد أثبت الواقع أن الخطاب المثقف، برمزيته وتعقيده، لم يعد قادرا على اختراق وعي المواطن البسيط، بقدر ما عمّق الفجوة بين السياسيين والناس.

 هذا الشرخ المتفاقم في التواصل يعيدنا إلى معادلة بسيطة لكنها فعالة: على من يريد التأثير في الناس أن يحدثهم بلغتهم، أن يعيش وجدانهم، وأن يهبط من "برج النخبة" إلى أرض الشارع.

وفي هذا السياق، تبرز تجربة الداعية محمد ولد سيدي يحيى، رغم مستواه العلمي، الذي لم يُمنح ألقابًا رسمية، ولا غُطيت خطاباته بقوانين أو امتيازات، لكنه بحضوره القوي ولغته المباشرة التي تخاطب العقل الجمعي الشعبي، استطاع أن يحتل موقعًا رمزيًا مرموقًا في وجدان الشارع الموريتاني.

وعلى خطى مماثلة، انتهج الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز خطابًا شعبويًا بسيطًا ومباشرًا، بعيدا عن التعقيد والتكلف، ما أكسبه رغم المآخذ الجمة عليه قاعدة جماهيرية واسعة، حتى في أوساط غير متوقعة، وأصبح اسمه ملتصقًا بعشرات المعالم الحضرية — من الحافلات إلى ملتقيات الطرق، مرورا بالطرق والمراكز التجارية والمطارات في مفارقة سياسية لها دلالاتها.

ولا يبتعد النائب والناشط الحقوقي بيرام الداه اعبيد عن هذا النهج، رغم كونه يمتلك أدوات الخطاب النخبوي، بفضل مستواه التعليمي، لكنه اختار الحديث بلغة الناس، ومخاطبتهم بمفرداتهم، واستثمار المظلومية الجماعية كأداة للتأثير، فتوسع حضوره، وأصبح رمزًا شعبيًا عصيًا على التهميش، رغم ما واجه من مضايقات متكررة.

تلك الدروس لم تكن حكرًا على السياسيين والدعاة، بل أدركها أيضًا نشطاء المنصات الرقمية، كما في حالة المدون الطالب عبد الودود، الذي أصبح "ملك البثوث" وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في الفضاء الموريتاني الافتراضي، فقط لأنه قرأ الشارع مبكرًا، وتحدث معه بلهجة شعبية، وتناول قضاياه من قلب يومياته.

ومن هنا، فإن التشكيلة الحاكمة، إن أرادت بناء علاقة متينة مع المجتمع، فليس أمامها إلا أن تغادر دائرة اللغة الرسمية المحنطة، وتنفتح على نبض الشارع. 

ليس المطلوب هنا التنازل عن القيم أو الانزلاق في الشعبوية الفارغة، بل المطلوب أن يُعاد الاعتبار للإنسان البسيط، وأن يخاطب بلغته، وأن يُشعر أن السياسة ليست شأنا نخبويا محصورا في أبراج معزولة.

لقد علمتنا التجارب — من موريتانيا إلى أمريكا، مع عودة ترامب إلى المشهد السياسي الأمريكي — أن من يريد البقاء في الذاكرة، عليه أن ينزل من برجه العاجي، ويتحدث بلغة الناس، ويأكل من موائدهم، لا من دفاتر المراسيم.

وختامًا، فإن على الموالاة اليوم أن تتبنى خطابًا يعيد تشكيل العلاقة مع المواطن، يقوم على البساطة والوضوح، لأن الخطاب النخبوي لم يعد مجديًا في زمن الشاشات المفتوحة والمنصات الشعبية؛ الخطاب الشعبوي الواقعي — لا التهريجي — هو الأداة الأقرب إلى قلب الناخب، وعقله، وصوته.

للعبرة: من تعلم لغة قوم أمن شرهم.

 

 

17. mai 2025 - 13:21

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا