
لم يعد من المبالغة القول إن نواكشوط تعيش منعطفًا حضريًا غير مسبوق. فمنذ سنوات، وأنا أمر بتقاطع مدريد في ساعات الذروة متسائلًا: متى نكفّ عن إهدار أعصابنا وزماننا وسط هذا الاختناق المزمن؟ اليوم، ومع ارتسام جسر الصداقة في أفق المدينة، تبدو الإجابة ماثلة فوق الخرسانة؛ فهنا تتجسد رؤية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في تحويل الوعود إلى منجز ملموس.
بعد أكثر من عامين من الأشغال، دُشّن جسر الصداقة عند تقاطع مدريد، أحد أكثر المحاور ازدحامًا في العاصمة. بطول 270 مترًا، وعرض يقارب 20 مترًا، يرتكز الجسر على 40 دعامة خرسانية مغروسة حتى عمق 60 مترًا في الرمال الساحلية. وقد تم تمويل المشروع بالكامل بهبة صينية بلغت 220 مليون يوان، أي نحو 30 مليون دولار أمريكي، ما يعكس متانة الشراكة التنموية بين نواكشوط وبكين.
منذ الساعات الأولى بعد تدشينه، رصدت بنفسي تغيرًا في سلوك السائقين: تراجع ضجيج الزمامير، تقلص زمن الرحلة من توجنين إلى وسط المدينة بنحو 20 دقيقة، وانحسر توتر الركاب الذين كانوا يبدؤون يومهم متأففين. هذه ليست مجرد مؤشرات عابرة، بل إشارات واضحة إلى أن الاستثمار في البنية التحتية هو استثمار في راحة الناس وإنتاجيتهم، لا في الإسمنت فقط.
الجسر لا يعمل بمعزل عن السياق. فبالتوازي معه، أطلقت الحكومة مشروعًا متكاملًا يهدف إلى تحديث شبكة النقل الحضري: تشغيل 112 حافلة جديدة، منها 62 حافلة عالية السعة بـ150 راكبًا، مزودة بأنظمة مراقبة وشاشات رقمية، إلى جانب 50 حافلة متوسطة. وقد تم تجهيز 51 كلم من المسارات المخصصة، وثُبتت 44 إشارة ذكية في 22 تقاطعًا، و330 إشارة للراجلين، ما يعزز انسيابية المرور وسلامة التنقل.
وعندما تتقاطع هذه البنية مع الجسر عند نقطة مدريد الحيوية، تتشكل شبكة نقل حضرية حديثة تفتح الباب أمام خفض استهلاك الوقود وتقليص الانبعاثات، في مدينة تواجه تحديات بيئية متزايدة. إنها منظومة ترى الحركة حقًا مدنيًا، لا معاناة يومية.
ولعلّ أكثر اللحظات رمزية في حفل الافتتاح كانت صعود رئيس الجمهورية بنفسه إلى إحدى الحافلات الجديدة وعبوره بها فوق الجسر، في رسالة عملية تؤكد التزامه الشخصي بمسار التحول الحضري، وإصراره على أن يواكب التنفيذ الواقعي الطموح المعلن. كانت تلك اللحظة تتويجًا لمسار هندسي وإداري دقيق، وتجسيدًا حيًا لقيادة تؤمن أن البنية التحتية ليست رفاهًا، بل ركيزة لحياة كريمة وعاصمة قابلة للحياة.
وبالطبع، ليست الصورة وردية بالكامل. فنجاح هذا التحول مرهون بصيانة صارمة، واحترام مسارات الباصات، وتبني ثقافة مرورية جديدة. هنا لا تكفي النية الحكومية، فالمواطن أيضًا شريك في صيانة المنجز. فجسر الصداقة ليس مجرد منشأة خرسانية، بل ملك جماعي، وأي خدش فيه هو خدش في صورة المجتمع كله.
عندما أقود سيارتي تحت هيكل الجسر الرمادي في ساعة الغروب، أتذكر كيف كان إقناع الناس بفكرة "نواكشوط القابلة للحياة" أمرًا مثيرًا للسخرية قبل سنوات. أما اليوم، وبينما أرى المشاة يعبرون بأمان، والحافلات تلتزم بخطوطها، أشعر أننا نغادر مرحلة التمني، إلى بداية جديدة عنوانها: وضوح الرؤية وجرأة التنفيذ.
جسر الصداقة لا يربط ضفتي شارع فحسب، بل يربط بين واقع مأزوم ومستقبل واعد. وما لم يكن سوى حلمًا معلّقًا، صار اليوم بوابة نواكشوط إلى عصر جديد من التحضر والفعالية، بقيادة رئيس اختار أن يكون في قلب المشهد، لا على هامشه.