
ما حدث في سوريا منذ 2011 لا يمكن اختزاله في ثنائية "ثورة شعبية ضد الاستبداد" أو "مؤامرة خارجية ضد محور المقاومة"، بل هو نتاج تفاعل معقد بين دوافع داخلية حقيقية من جهة، ومصالح إقليمية ودولية تقاطعت مع مسار الأحداث من جهة أخرى.
من منظور جيوسياسي بحت، كان النظام السوري يشكل جزءًا محوريا من شبكة التحالفات التي تربط إيران بحزب الله، وهي الشبكة التي تنظر إليها إسرائيل والولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية باعتبارها تهديدا استراتيجيا دائما. فسوريا -على خلاف كثير من الأنظمة العربية- لم تكن فقط دولة استبدادية (وهي صفة شائعة في أغلب دول المنطقة)، بل دولة ذات تحالفات إقليمية تعتبرها إسرائيل معادية بشكل مباشر، خاصة وأنها الدولة الوحيدة التي لها حدود برية مباشرة مع إسرائيل وتربطها علاقات تنسيق وثيق مع طهران وحزب الله.
في هذا السياق، يمكن فهم لماذا حظيت الثورة السورية، تحديدا، بزخم إقليمي وإعلامي واسع، بخلاف حراك دول أخرى انكسرت فيها الثورة كمصر، أو كُتم صوتها قبل أن تنبس؛ كالأردن أو السعودية، حيث لم تتجاوز المطالب سقف الإصلاح الجزئي، رغم وجود أنظمة لا تقل استبدادا من حيث المعايير السياسية. وهذا يطرح سؤالا مشروعا: هل كانت بوصلة التغيير تتحرك أحيانا وفق اعتبارات جيوسياسية أكثر منها إنسانية؟
التدخل الخارجي في الملف السوري، سواء عبر الدعم العسكري أو الإعلامي أو السياسي، لم يكن محصورًا فقط في معسكر "الدول العربية السنّية الاستبدادية"، بل شاركت فيه قوى تسعى صراحة لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة بما يحد من قدرة إيران على استخدام الأراضي السورية كمنصة لتهديد إسرائيل بريًا. وقد يكون من المشروع القول إن تفكيك الجغرافيا المتصلة بين إيران وسوريا ولبنان شكّل هدفا غير معلن لكنه ثابت في الحسابات الأمنية الإسرائيلية.
في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أن كثيرا من الشباب الذين التحقوا بالحراك السوري فعلوا ذلك بدوافع صادقة وساذجة، مدفوعين بالرغبة في الحرية والكرامة، غير أن البيئة الإقليمية والدولية المحيطة أعادت توجيه هذا الحراك نحو مسارات تتقاطع -ولو دون قصد- مع أجندات تتجاوز الطموحات المحلية، بل وتخدم أحيانًا أهداف خصوم النظام أكثر مما تخدم أصحاب الأرض.
المفارقة المؤلمة أن الساحة السورية تحولت تدريجيًا إلى مختبر للنفوذ الدولي؛ فمن جهة، كانت هناك قوى تسعى إلى إضعاف محور المقاومة دون التورط في مواجهة مباشرة، ومن جهة أخرى، كانت إسرائيل تنجح في تحويل معركتها مع إيران من مواجهة متعددة الجبهات إلى صراع جوي تحكمه تقنياتها التكنولوجية العسكرية والاستخباراتية المتفوقة، حيث تقل أهمية الكم البشري وحرب الخنادق، وهو ما تفضله تل أبيب بطبيعة الحال.
الإعلام أيضًا لعب دورًا حاسمًا. كثير من القنوات التي تبنت الخط التحرري في تناول المشهد السوري، لم تكن دومًا نزيهة في تغطيتها، بل قدّمت أحيانًا صورة مُنتقاة تخدم سردية معينة: تُضخّم من قمع النظام وتُغفل في المقابل ممارسات الفصائل المسلحة، وتؤطر المعركة في ثنائية الخير والشر، دون منح القارئ أو المشاهد المساحة اللازمة لفهم المشهد بكل تناقضاته وتعقيداته.
ومن المهم الإشارة إلى أن الذكاء الإسرائيلي -كما يظهر في وثائق ووقائع عدة- لا يعتمد فقط على الوسائل العسكرية، بل كذلك على إدارة الإدراك وصناعة السرديات. يُشار إلى عمليات استخباراتية دقيقة في الداخل الإيراني والسوري، واستخدام أدوات تكنولوجية متطورة، مثل عملية هواتف البيجر، وعملية مخازن المسيرات الاسرائيلية في إيران، لكن في موازاة ذلك، يُلاحظ ميل متصاعد لتوظيف السرديات الفكرية والمجتمعية والاختلافات المذهبية لإحداث اختراق في الوعي، ودفع الخصوم إلى خوض معارك بالنيابة دون وعي بالنتائج النهائية.
في المحصلة، لا يمكن فهم المشهد السوري بشكل دقيق دون الإقرار بأننا أمام صراع مركّب، تختلط فيه المطالب المشروعة بالرهانات الإقليمية والدولية، ويصعب فيه تحديد الفاعل الحقيقي من الوكيل، والثائر من المستثمَر فيه. لكنه، دون شك، يقدم درسا قاسيا في أن خوض أي معركة دون إدراك كامل لخريطة القوى والمصالح قد يقود إلى نتائج معاكسة لما يُراد تحقيقه.
أخيرا، وبكل موضوعية، يمكن القول إن تحييد سوريا، بوصفها الحلقة الجغرافية والسياسية الأهم في محور المقاومة، كان شرطا ضروريا لتمكين إسرائيل من الانتقال إلى مرحلة استراتيجية جديدة في صراعها مع إيران، وهي الحرب المباشرة.
فطالما بقيت سوريا تحت مظلة التحالف مع طهران، كانت تشكل ممرا بريا حيويا بين إيران ولبنان، مما يمنح إيران القدرة على فتح جبهة برية مباشرة على حدود إسرائيل عبر الأراضي السورية واللبنانية، ويجعل أي صدام مستقبلي أكثر تعقيدا وتعدد أبعاد. أما بعد تفكيك بنية الدولة السورية وإضعافها إلى حد كبير، وإسقاط نظامها الموالي لإيران، فقد تحوّلت الجبهة الشمالية لإسرائيل إلى منطقة رخوة ومجزأة، لا تشكل خطرا حدوديا كما في السابق.
وهكذا، أصبح في مقدور إسرائيل -بدعم أمريكي وغربي واسع- أن تحصر معركتها مع إيران في المجال الجوي فقط، وهو الميدان الذي تمتلك فيه تفوقًا نوعيًا من حيث التكنولوجيا، والاستخبارات، والقدرات التدميرية الدقيقة. هذا النمط من الحرب يضمن لها تفادي كلفة المواجهة البرية، ويجعلها في مأمن جغرافي كامل، خاصة بعد أن أُحكم الطوق العربي الإقليمي بأنظمة لا تعاديها، أو حتى تنسق معها.
وبهذا المعنى، فإن تحييد سوريا لم يكن مجرّد عرض جانبي في سياق "الربيع العربي"، بل ركيزة استراتيجية في إعادة تشكيل خريطة الردع والمواجهة في المنطقة، وتمهيد الأرضية لتحولات أوسع في موازين القوى.
ومن منظور بعض الرؤى الدينية والسياسية في إسرائيل، فإن هذا التغيير الجيوسياسي يعيد إلى الواجهة فكرة “أرض الميعاد” كما وردت في النصوص التوراتية، وهي الأرض التي يُعتقد أن الله وعد بها النبي إبراهيم وذريته من بعده: إسحاق ويعقوب (إسرائيل). ويستند هذا الاعتقاد إلى ما ورد في سفر التكوين (الإصحاح 15، الآية 18):
"لنسلِك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات."
يُفسَّر هذا النص في بعض القراءات على أنه يشير إلى رقعة جغرافية واسعة تمتد من "نهر مصر" -الذي يُحتمل أن يكون وادي العريش أو أحد الأنهار الصغيرة في شمال سيناء أو النيل- إلى نهر الفرات، مما يعني نظريًا مناطق تشمل أجزاء من مصر (شبه جزيرة سيناء) وكامل فلسطين، والأردن، ولبنان، وجنوب سوريا، وأجزاء من شمال السعودية (ربما المدينة وخيبر) وأجزاء من غرب العراق.
ورغم أن هذا التصور لا يمثل بالضرورة سياسة إسرائيل الرسمية، إلا أنه حاضر في بعض الخطابات الرمزية والفكرية، ويُستدعى أحيانًا في تفسير تحولات جيوسياسية كبرى، مثل تحييد سوريا، بوصفها خطوة تزيل العوائق أمام انتقال إسرائيل إلى نمط من المواجهة يُفضي بها إلى موقع استراتيجي أكثر أمنا، وأقل احتكاكا مباشرا مع القوى المعادية في المنطقة، لتتمكن من الإنتقال إلى الخطوة الموالية.