
في مشهد يبدو منفصلا عن واقع الناس ومثقلا بالسخرية والتضليل، أطلقت الحكومة حملة إعلامية واسعة للترويج لقضاء العطلة الصيفية داخل البلاد، متذرعة بضرورة دعم السياحة الوطنية وتحفيز الاقتصاد المحلي. سقطت التعليمات من أعلى هرم السلطة، وامتدت إلى الولاة والحكام، لتترجم في الداخل على شكل خطب حماسية ومظاهر رسمية ممجوجة، وكأن العطلة الصيفية باتت أولوية وطنية ملحة في بلد ما يزال مواطنوه محرومين من أساسيات الحياة.
صحيح أننا لا نفتقر إلى المواقع الطبيعية الجاذبة، ولا إلى التراث الثقافي الغني الذي يمكن أن يشكل دعامة حقيقية لصناعة سياحية واعدة. لكن الحقيقة المؤلمة أن ما ينقصنا هو: البنية التحتية، والعدالة في توزيع الموارد، والشفافية في التسيير، وتوجيه الأولويات وفق ما تمليه حاجات الناس وليس ما تقتضيه الدعايات الديماغوجية الرديئة.
فمن الذي يملك رفاهية الاختيار بين “العطلة في الداخل” و”العطلة في الخارج”؟ هل هم الفلاحون الذين يعيشون في القرى النائية بلا كهرباء ولا ماء شروب وبلا أدوات إنتاج؟ أم العمال "الجرناليون" الذين لا يعرفون معنى "الراحة" إلا حين يطردون من العمل؟ أم هم الشباب الذين لا يرون من وطنهم إلا أبوابه الموصدة، فيضطرون لمغادرته بحثا عن عطل دائمة من الفقر واليأس؟
ومع ذلك، فإن تحويل مسألة العطلة إلى قضية وطنية يظل قاصرا عن أن يعكس اهتماما حقيقيا لا بتنشيط السياحة ولا براحة المعطلين، وإن يعكس بكثير من الجدارة غيابا واضحا لترتيب الأولويات الفعلية للمواطن وللوطن في دوائر السلطة العليا. ففي بلد يعاني من تصدع المنظومة التعليمية، ورداءة الخدمات الصحية، وارتفاع معدلات البطالة، تصبح مثل هذه الحملات أشبه بمسرحية دعائية لا صلة لها بالواقع، ولا أثر لها على الأرض.
والأدهى من ذلك أن الحملة الحكومية لا تكتفي بالترويج داخل الوسط الحضري، بل تم تكليف الولاة والحكام والأئمة بنقلها إلى جميع أنحاء البلاد، حيث يعيش الناس في ظروف غاية في الصعوبة خارج معادلة الترف والسفر أساسا. وهي دعوة تكاد تشبه السخرية السوداء: دعوة الفقير إلى دعم سوق لا يملك فيه ثمن السلعة، ولا حتى كلفة الدخول إليه؛ دعوة تخاطب الفقراء كأنهم سياح، وتدعو من لم يعرف في حياته سوى العناء إلى أن يدعم صناعة الترف!
لو كانت الحكومة حريصة فعلا على دعم السياحة الداخلية، لبدأت بتهيئة ظروف تجعل من التنقل بين المدن تجربة ممكنة وآمنة، ولأقرت إصلاحات تحفز الاستثمار في هذا القطاع، وأطلقت مسارا تنمويا يقدم حاجات الانسان على التمثيل أمام الكاميرات، ويمنح الحقيقة من الإهتمام ولو عشر ما يمنحه للخداع والمخاتلة.
إن ما يحتاجه الداخل حقا ليس دعوات لقضاء العطلة فيه، وإنما إنصافا طويل الأجل، واستثمارا في كرامة الإنسان. فعطلة المواطن تبدأ حين يشعر أنه مواطن فعلا، له في وطنه نصيب من العدالة والخدمات والفرص، وليس حين يطلب منه أن يكون سائحا في وطن لم يمنحه بعد حقوقه الأساسية.
الشيخ ولد أحمد مدير وكالة كيفه للأنباء