من الصعب أن نجد تعريفا جامعا مانعا لمعنى الوطن، لأنه مفهوم يتداخل فيه البعد الإنساني والقانوني والمصلحي.. ففيه يشعر الإنسان بدفء الانتماء، ولا يرى ذاته إلا من خلال الانتماء لوطن، يشعر فيه بالكرامة والمساواة والاعتزاز بالذات.. وطن يعتز به مواطنوه، و به يفاخرون ولصالحه يقدمون أغلى الأثمان، والتضحيات الجسام.
هذا في ظل وطن يساوي بين جميع مواطنيه في الحقوق والواجبات، ويحتضن آمال وتطلعات ساكنته.
لكن عند ما يتحول الوطن إلى غابة، يضطهد فيها القوي الضعيف وتستحوذ القلة فيه على مقدرات البلد، تهمل المصالح العليا للوطن وساكنته وتلغى بشبابه في دروب الإهمال والتردي، فعندها فقط تصبح الوطنية والوطن، كلمات جوفاء لا يلتفت إليها الشاب المنبوذ العاطل عن العمل ولا حامل الشهادات العليا، الذي لا يرى في المسابقات الوطنية فرصة، لأن نتائجها محسومة سلفا، قبل الإعلان عنها.
كما أنها مفاهيم، تصبح ملتبسة بالنسبة للمريض الذي تبيعه الصيدلية جهارا دواء مغشوشا، والفقير الذي يطحنه جشع التاجر الذي لا يرضى من الربح، سوى مضاعفة الأرباح، حتى ولو كانت بضاعته مغشوشة أو منتهية الصلاحية.. ولا الموظف الذي يحاصره اليأس من الترقي أو تحسين الظروف، لأنه تأكد بالدليل أن المناصب، هي حكر على أوساط وأسر معينة، لا تشترط فيها الكفاءة ولا القوة ولا الأمانة.
واقع دفع بشباب الدول التي لا يحكمها قانون ولا تضبطها معايير ملزمة إلى الهجرة، التي يكون الشباب فيها بين خيارين:
- خيار الوصول بأي ثمن إلى ديار الغرب، بحثا عن فرصة ولو بالوقوع بين مخالب عصابات الإجرام، أو الموت المحتوم.
- أو البقاء في وطن يضطهدهم ويرمي بهم في وحل البطالة، حيث الشعور بالدونية والضياع، الشيء الذي يذكي مرارته، بقاءهم عالة على أسرهم، التي علمتهم وربتهم، وصرفت عليهم الكثير من أجل أن يصبح لهم دور يلعبونه في وطنهم.
واقع يدفع بالشباب المتعلم وغير الحامل لأي شهادة- على حد سواء- إلى الخيار الأول، الذي يقذف بهم خارج الوطن ولو لحظة واحدة، لأن وطنهم تحكمت فيه نخب، هي عبارة عن مافيا، لا يحكمها ضمير ولا تردعها عقوبات زاجرة.
نخب تبيع مصالح الوطن بأبخس الأثمان إذا هي فاوضت نيابة عنه، وتدمر المرفق العمومي، تحت شعار التحديث والتطوير والإصلاح ومحاربة الفساد.. وفي ظلها ينهار الاقتصاد ويتردى التعليم وتختفي الصحة ويهتز الأمن وتضيع المسؤولية، وتختفي نهائيا مفاهيم الوطن والوطنية والأمين والأمانة.. وعندها يتحول الوطن إلى سجن لمواطنيه، طاردا للكفاءات والخبرات.. فيه تخيب الآمال وتضيع الحقوق ويسود قانون الغاب، الذي خبرناه جيدا في هذه الربوع، عند ما كان وطننا يدعى ب "بلاد السيبة" وبالبلاد السائبة.. ولا أعتقد أن هناك ما يدفعنا اليوم إلى الحنين لواقع كذاك.. لذا لا بد من الضرب بيد من حديد(من طرف الجميع) على الفساد الذي دمر التنمية وغيب المعايير وأهلك الحرث والنسل وحول بلادنا إلى وطن طارد لبنيه، تتقاذفهم مافيا دول أمريكا اللاتينية، فيتحولون أحيانا إلى عمال بالسخرة,. ومن نجا منهم من مخالب عصابات الإتجار بالبشر، يجد أمامه أسوار الولايات المتحدة الشاهقة، التي صممت لكي تكون سدا منيعا أمام التسلل إلى الأراضي الأمريكية، التي يتحدث بعض الخبراء عن تراجع شديد لمقدراتها وقوتها وهو ما سيحولها قريبا إلى بلد طارد للأجانب، بعد أن كان قبلة لهم.