أحمد بن الأمين الشنقيطي (1289 – 1331ه)، علامة جهبذ، واسع الثقافة متعدد المعارف. عاش عمرا عريضا مليئا بالعطاء المعرفي؛ رغم أنه لم يعمر أكثر 41 سنة، وخلف مؤلفات قيمة، أشهرها كتابه (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط). نشأ الرجل قرب "الركيز"، ودرس على أكابر علماء
البلد الذين عاصرهم، فأخذ عن عمه مأمون بن محمد الأمين، والمختار بن ألما، ولازم العلامة يحظيه بن عبد الودود فأفاد منه كثيرا، وتشبع من العلوم الشرعية واللغوية، وكان على معرفة تامة بحياة موريتانيا الاجتماعية والثقافية. ثم رحل حاجا إلى بيت الله الحرام سنة 1315 للهجرة، وطَوَّفَ في بلاد المشرق، فزار مراكش والحجاز وروسيا وتركيا وسوريا، واستقر به المقام في مصر، وزار المكتبات والمعاهد العلمية، واطلع على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية للبلدان التي زارها، والتقى بأكابر علماءها وأدباءها وحذاقها.
وقد أندهش علماء المشرق من حفظه وسعة معارفه، وشهدوا له بذلك، بل استشهدوا بجودة ذاكرته في مجال السجال العلمي، والحجاج الأكاديمي. فهذا العلامة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، ينقل عن العلامة محب الدين الخطيب رحمه الله -في إطار الرد على من استكثروا على الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه حفظه وجودة ذاكرته- قوله: (نحن نعرف معرفة شخصية الأستاذ العلامة الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله، وكان يحفظ الشعر الجاهلي كله، ويحفظ شعر أبي العلاء المعري كله، ولو رحنا نعد ما يحفظه لكان شيئا عظيما، وكتابه "الوسيط في تراجم علماء وأدباء شنقيط" كتبه من أوله إلى آخره من حفظه)(السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص273).
ومثل ما قال المؤرخ الفرنسي "بول مارتي" عن عالم ولاتة المشهور الشيخ محمدي بن سيد عثمان التاكاطي رحمه الله، بأن (أسفاره فتحت نفسيته)، فإن رحلة ابن الأمين الشنقيطي إلى بلاد المشرق وتطوافه فيها، ومحاورته لعلمائها، واطلاعه على نمط التفكير فيها وأسلوب عيشها، قد فتح ذهنيته، وولد لديه حسا نقديا فذا انعكس في أسلوبه في كتابه الفريد "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط".
ويسعى هذا المقال إلى رصد الجانب النقدي لدى الرجل في المجال الاجتماعي خاصة، وذلك من خلال كتابه "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط".
نقد جوانب القصور في التدين لدى مجتمع الزوايا:
كان مجتمع الزوايا في العصر الذي عاش فيه ابن الأمين؛ رغم ما فيه من تدين وعلم ومعرفة، قد تواطأ على بعض المخالفات الشرعية الْبَيِّنَةِ؛ التي غدت عرفا فاشيا في الناس.. ولم تكن تلك المخالفات لتمر دون أن تجد من العلماء من يجهر بإنكارها. فقد زار محمد الحبيب بن لمرابط الغلاوي رحمه الله أهله في تكانت يريد الإقامة فيهم –وكان يسكن لدى أخواله- فلما رأى فشوَّ التيمم فيهم، قال معرضا بهم:
قوم إذا وضع المسافر رحله .. بازائهم ممــــا يحاذر يسلم
ويرى المساجد كلهـــــــا ممـــلوأة .. مـــن عابد ومُعَلّمٍ ومَعَلَّمِ
والطاهرون جلودهم لصلاتهم .. لا يلعقون يُدِيَّهُمْ لِتَيَمُّم
وقد كان امحمد بن الطلبه اليعقوبي رحمه الله أصرح منه في إنكار هذه المخالفة الشنيعة، فقد جهر بتسفيه أهلها، وتبرئة الدين من مخالفاتهم:
فهمْ يدّعون الدِّينَ والدينُ منهمُ .. مَنــــــــــاط الثريا رامهـــــــــا المُتناوِلُ
يُصلـــــون لا يأتونهــــــــــــــا بطهــــــــــــــــارةٍ .. وعندَ الأذانِ نَوْؤُهمْ مُتكاسلُ
يصلون دأبا بالتراب جهالة ... بأفواههم ترب الحصى والجنادل
يقولون مرضى هل سمعت بأمة ... بها مرض قد عمها لا يزايل
نعم مرض القلب المعد لأهله ... به درك النار الحرار الأسافل
بل إن حالات الإنكار على المخالفات الشرعية لدى مجتمع الزوايا، قد اتخذت في بعض حالاتها أسلوبا عنيفا، كما هو الشأن بالنسبة لصلاحي بن المامي اليعقوبي رحمه الله، الذي "كان يحارب إخوته، لأنه يراهم مانعين للزكاة"(الوسيط، ص222).
وكان ابن الأمين رحمه الله أشمل من الجميع في نظره إلى "مسألة التدين" لدى مجتمع الزوايا، وفي تناوله النقدي لها. فقد شخص الرجل الحالة الدينية، وحدد مكمن الخلل فيها، وضبطه في ثلاث قضايا أساسية، وجه إليها سهام نقده. وهذا القضايا هي:
1) الحروب بين القبائل على أساس العصبيات الجاهلية: فهو يرى أن (الحرب في تلك البلاد لا تخلو عن ظلم، فإذا قتل فرد من قبيلة قتيلا من غيرهم، فلا ضابط عندهم في أخذ ثأر المقتول)(الوسيط، ص509).
ويتعجب ابن الأمين من سلوك قبائل الزوايا الغريب، حيث يقول: (ومن العجب، أن الزوايا على ديانتهم وعلمهم، أهل حقد بعضهم على بعض، فترى القبيلتين إذا وقعت بينهما حرب، لا تنمحي أضغانها من الصدور، ولا يكون إلا صلح على دخن)(الوسيط، ص478).
وهنا يبدي ابن الأمين إعجابه بسلوك قبائل عرب الحجاز وحكمتهم –وقد زارهم واطلع على حياتهم- في التعامل مع القضايا التي يثير مثلها الحروب بين القبائل الشنقيطية، فيقول: (وعرب الحجاز في هذا، أضبط خطة من أهل شنقيط، زواياهم وحسانهم. فإن الحجازي إذا قتل قتيلا، لا يخاف أحد من أقاربه، ما دام غير متغيب، وتمشي بينهم السفراء لإعطاء المهلة، فيمهلونهم شهرا مثلا، أو نحوه. فإذا انقضت المدة، ربما جددوها أيضا. وفي أيام الأمن: إن لقوا القاتل فلا يغيرونه. فإذا تغيب القاتل: لا يؤخذ به من كان يجتمع معه في النسب، فوق الأب الخامس)(الوسيط، ص509).
2) القضية الثانية التي ينتقدها ابن الأمين على مجتمع الزوايا، هي تعطيلهم لحد القصاص، فهو يؤكد على أنه من القصور الديني البين لدى الزوايا أنهم إذا وقع فيهم القتل –مع ندرة وقوعه فيهم- فإنهم (يصعب عليهم الانقياد فيه إلى القود. فإما أن يتفقوا على دية، وإما أن يتحاربوا)(الوسيط، ص532).
3) القضية الثالثة هي فشوُّ التيمم وانتشاره بين الزوايا (صيفا وشتاء). ويطيل ابن الأمين انتقاد هذه القضية، ويذكر فيها فتاوى العلماء الذين تصدوا الانتقادها، فيقول: (وقد أنكر ذلك بعض العلماء عليهم وشنع)، ثم يورد حججهم ويفندها، فيقول: (فمنهم من يحتج بأن النابغة الغلاوي، أنكر ذلك عليهم. ثم إنه زكم بعد سنة، فصار يتيمم. وما أظن النابغة يتيمم إلا في أيام مرضه، ثم يعود إلى الوضوء. وبعضهم يزعم أن جده العالم الفلاني، أضرّ به الماء فصار يتيمم. وقد رأينا بعضهم يأخذ الدلو على فم البئر، ويصبه في الحوض المسمى عندهم بالتكدَّه، فيخوض في الماء إلى الكعبين، ثم يخرج ويتيمم)(الوسيط، ص479).
انتقاد ازدراء الحرفيين والصناع:
وينتقد ابن الأمين ما كان شائعا لدى المجتمع الموريتاني من نسبة بعض الفئات إلى حرفهم وجعلها أصلا سلاليا، والتحقير بهم بسبب ذلك. فيؤكد الرجل أن الحرفة ليست أصلا ينسب إليه الناس، ولا ينبغي تكون سببا في التحقير بأحد. قال في حديثه عن بعض القبائل التي اشتهرت بالغن، (ويقال: إن أصلهم قيون، على أن هذا ليس نسبا يرجع إليه عند أهل الشرق، وهم محقون في ذلك، بل هو من باب الحرف، والصنائع التي تجب على الكفاية، وهذا شيء انفرد به أهل صحراء المغرب، وهو خطأ محض، إذا أرادوا أن يضعوا من قدر شخص. قالوا: هوا معلم، وهذا بعينه مدح في مراكش، وفاس. فإني رأيت بعض أشياخ الطرق، يشتغل بصناعة الحديد، وكذلك لا فرق عند المشارقة بين صانع الحديد وبائع القمح، ومن يبيع الخيل أو القماش، أو يخيط الثياب أو غير ذلك، بل المذموم عندهم، أن يكون الشخص لا حرفة له تغنيه عن الناس، وكان الوليد بن المغيرة القرشي المشهور حدادا، ولم تذمه قريش لذلك)(الوسيط، ص359 - 360).
فهو يؤكد هنا أن المشارقة محقون في قولهم أن الحرفة ليست أصلا ينتسب إليها، وإنما هي مهنة يُتَعَيَّشُ منها، ويمكن أن يعمل فيها أي أحد بغض النظر عن نسبه أو مكانته، وليس ذالك عيبا، وإنما العيب " أن يكون الشخص لا حرفة له تغنيه عن الناس". وَيُدَعِّمُ ابن الأمين نظره هذا بثلاث معطيات: شرعي، وواقعي وتاريخي. فأما المعطى الشرعي: فهو كون الحرف والصنائع "تجب على الكفاية"، وبالتالي فإن الواجب الشرعي هو إقامتها أو تشجيع من يقيمها لا تحقيره والزراية عليه. وأما المعطى الواقعي: فهو كون هذه النظرة المحقرة لممتهني الحرف اليدوية من الأخطاء التي انفر بها المجتمع الموريتاني دون غيره من المجتمعات العربية، التي كان بعض أشياخ الطرق الصوفية، فيها يشتغل بصناعة الحديد، ولا تفرق "بين صانع الحديد وبائع القمح، ومن يبيع الخيل أو القماش، أو يخيط الثياب أو غير ذلك". وأما المعطى التاريخي: فهو كون الحرفة لم تكن معيارا للتفاضل في أي وقت من أوقات التاريخ لدى العرب، "وكان الوليد بن المغيرة القرشي المشهور حدادا، ولم تذمه قريش ذلك".
ومن العجب أن هذه الرؤية الواضحة من "قضية الصناع والحرفيين" التي كانت لدى ابن الأمين في القرن التاسع عشر، وهذا الموقف القوي المؤصل والمعلل، ما زال بعض الناس اليوم قاصرا عن فهمه واستيعابه !
نقد أسلوب التأديب لدى علماء الأزهر:
ومما يلحق بهذا المجال نقد الرجل لأسلوب التأديب لدى علماء الأزهر، فيحكي الرجل نموذجا من أساليب التأديب لدى بعض علماء شنقيط، وهو العلامة محمذ فال بن أحمد فال التندغي، الذي كان إذا بلغه عن أحد طلابه قول لا يليق، تركهم حتى يجتمعوا عنده. فيقول:
وقول ما لا ينبغي لا ينبغي .. لِتنْدغٍ ولا لغير تندغِ
فإذا كان الذي بلغه فعل قال:
وفعل ما لا ينبغي لا ينبغي .. لتندغ ولا لغير تندغ
ثم يعلق ابن الأمين قائلا: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفعل ذلك على جهة التعميم. فيقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا، أو يقولون كذا، وما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله"، وهذا النوع أردع للناس. فليت أن علماء الأزهر فعلوا مثله، وتركوا عنهم، يا ابن الفاعلة، أو يا ابن الكلب، أو يا حمار، فإن هذه الألفاظ، تذهب هيبة الشيخ من قلب الطالب)(الوسيط، 520).
وتكمن قيمة هذه الملاحظة في أمرين: أحدهما هو تأصيل هذا الأسلوب، وتأكيد أنه نهج نبوي وليس أمرا ابتدعه علماء شنقيط، والثاني: هو كون هذه اللفتة لهذا الأسلوب الحضاري في التعامل مع الطلاب، صادرة من رجل قادم من صحراء بدوية ليست لها حضارة ولا مدنية، إلى علماء مصر، ذات الحضارة العريقة الممتدة على طول 4000 سنة. ثم تعليله لأسلوب علماء الأزهر في التأديب بأنه يذهب "هيبة الشيخ من قلب الطالب" تعليل ذكي.
نقد المخالفات الشرعية في الزواج:
ويوجه ابن الأمين سهام نقده إلى العادات الاجتماعية، فيتطرق إلى المخالفات في الزواج، وينص على أن (الوليمة في أرض شنقيط، كلها مخالفة للسنة، سواء في ذلك مجتمع الزوايا... وحسان... لأنها عند الكل على ولي المرأة، قبل البناء، ولا يدعى لها أحد مطلقا، وأكثر الأطعمة، يأكله الأوباش، وتحمل منها موائد إلى أقارب الزوج، وتبقى المرأة في كل عيد، تبعث موائد إلى أقارب الزوج، كما أن نساء أقارب زوجها، يبعثن بمثل ذلك إليه، والوليمة في الشرق، باقية على الزوج بعد البناء، ولا ينتقد فيها إلا التكلف المنهي عنه، المبيح لعدم إجابة الدعوة، ودعوة الأغنياء دون الفقراء، فإذا كان أحدهم لين القلب يدعو الفقراء، ويطعمهم من سؤر الأغنياء)(الوسيط، ص525).
فهو ينتقد على أهل شنقيط كونهم عكسوا الأمر في شأن الوليمة فجعلوها على ولي المرأة، بدل ما جاءت به السنة من أن الوليمة على الزوج، ثم لم يكتفوا بذلك فألزموا المرأة بأن تبعث كل عيد "موائد إلى أقارب الزوج". وهو يشيد هنا بأهل المشرق في متابعتهم للسنة في هذا الأمر، عكس الشناقطة، ولكنه ينتقد عليهم قضيتان في هذه المسألة: الأولى: هي تكلفهم في شأن الوليمة، والثانية: هي دعوتهم "الأغنياء دون الفقراء، فإذا كان أحدهم لين القلب يدعو الفقراء، ويطعمهم من سؤر الأغنياء".
وهنا قد ترد بعض الأوهام، التي تقول إن نقد الرجل للأوضاع الاجتماعية في شنقيط، ربما يطعن في مصداقيته، كونه إنما قال ذلك بعد ما خرج عن شنقيط واستوطن في المشرق. ولكن هذا الوهم يتبدد عند ما نعلم أن الرجل لم يوجه نقده إلى أهل شنقيط وحدهم، بل وجهه أيضا إلى أهل الحجاز، وإلى علماء الأزهر الذين كان يسكن بين ظهرانيهم كما ما مر بنا. مما يؤكد استقلالية الرجل، وأنه إنما كان ينطلق في نقده من نشدان الحقيقة والدفاع عن القيم والمثل العليا.
اعتماد معطيات علم الاجتماع:
ومما يدل على عمق ابن الأمين وتفرده في عصره، استخدامه للتجربة ولمعطيات العلم في نقد الأشياء، وفي التعليل. فنجد له هنا نظرات نقدية تشبه كثيرا منطق العلامة الفيلسوف عبد الرحمن ابن خلدون.
وكأنه قد وضع بين يديه مقولة ابن خلدون الشهيرة التي صرح فيها بأن (الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الانساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق)(مقدمة ابن خلدون، ص21).
وهنا نجد ابن الأمين يعتمد التجريب في نقد المقولات والحكم عليها، مثال ذلك ما قاله في نقد المقولات التي كانت شائعة لدى الناس في العلاج من لسع العقرب. قال: (والناس يزعمون أن من لسعته، وركب حمارا، وجعل وجهه إلى ذنبه يبرأ، وقد جربت هذا فوجدته كذبا)(الوسيط، ص537).
ونجده كذلك يعتمد على معطيات العلم في فحص الروايات والحكم على صدقيتها، قال وهو يتحدث عن مرض (السُّلِّ) الذي كان شائعا في الناس آنذاك، (ويزعمون أن أحمد المقري العلوي، داواه من شخص، بأن عمل له دواء قويا، فتقيأ دودة كانت في رئته تأكلها، وإذا كان هذا المرض، يتولد من قروح تحدث في الرئة، تكون هذه المسألة غير صحيحة)(الوسيط، ص539).
بل أبعد من ذلك نجد الرجل يعلل بعض الظواهر الاجتماعية، تعليلا في غاية العلمية، والبعد عن الخرافة والأساطير التي لا تسندها رواية ولا دراية. قال وهو يتحدث عن أبناء بنيوك الكحل، (ومعنى الكحل، انهم سود الألوان، لسكناهم شمامه)(الوسيط، ص490). وهذا التعليل في غاية العلمية، وهو متطابق مع رؤية ابن خلدون وتعليله لمسألة البياض والسواد، بأنها ترجع إلى تأثير البئة، و(أن اللون تابع لمزاج الهواء)(مقدمة ابن خلدون، ص91).
وتكمن قيمة هذه الملاحظات إذا ما علمنا أن الرجل عاش في بيئة تسيطر عليها الخرافة ومولعة بالغرائب، وللأساطير فيها رواج، ولا تتقبل بأي حال، أي شكل من أشكال النقد يوجه إلى الأولياء والصالحين أحرى التشكيك في كراماتهم ونقدها بمعطيات العلم. ومن أراد أن يعرف حقيقة العقل الموريتاني في تلك الحقبة من الزمن فما عليه إلى أن ينظر في (رحلة المنى والمنة) للعالم الصوفي ذائع الصيت الطالب أحمد ولد أطوير الجنة الحاجي رحمه الله، فهي أبلغ تصوير لنمط التفكير في تلك الحقبة من التاريخ الموريتاني.
كلمة أخيرة:
وبعد.. فهذه كلمة وفاء في حق هذا الرجل الفذ (أحمد بن الأمين) الذي شاع صيت كتابه الفريد (الوسيط تراجم أدباء شنقيط) ودخل كل بيت موريتاني. ودفن هو، فلم يذكره أحد، حاشا ثلاثة أسطر في كتاب (بلاد شنقيط: المنارة والرباط). ثم هي الفتة إلى هذا الجانب الهام من جوانب كتاب (الوسيط) المتعددة، التي شُغِلَ الناس عنها بالجانب الأدبي في الكتاب، وقصائد امحمد بن الطلبة ومطارحاته القوية مع الشماح بن ضرار وحميد بن ثور، ومدائح مولود بن أحمد الجواد، وإبداعات سيد عبد الله بن أحمد دام، ونظمه للشعر الفصيح على أوزان "لغن الحساني"، ورائعة محمد بن سيد محمد العلوي البديعة "زارت علي على شحط النوى سحرا".. كل ذلك شغل الناس عن الجوانب الاجتماعية والنقد العلمي في الكتاب. فأردت أن يكون هذا المقال بداية لنقاش جديد حول الكتاب. والله المستعان وعليه التكلان.