تعتبر صناعة الحديد والصلب من أهم الصناعات الاستراتيجية للدول، حيث تعد ثاني أكبر صناعة في العالم بعد صناعة النفط والغاز بحجم أعمال يقدر بحوالي 900 مليار دولار سنويا. وتتربع الصين على قمة السوق العالمي للمادة الخام لهذه الصناعة، فهي تعد أكبر دولة في العالم منتجة، ومستهلكة لخامات الحديد، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الصين تستحوذ على حوالي 46% من الإنتاج العالمي، وحوالي 70% من صادرات العالم من خامات الحديد المنقولة
عبر البحار، وخلال السنة المنصرمة وحدها بلغ حجم إنتاجها، ووارداتها من هذه المادة الخام على التوالي حوالي 1.28 مليار طن، و1.024 مليار طن.
وكانت الصين قد حافظت خلال العقود الثلاثة الماضية على نمو اقتصادي عالي جدا صاحبه تنامي متسارع في استهلاكها، وطلبها للمادة الخام، حيث تشير البيانات إلى أن حجم وارداتها من خامات الحديد تضاعف تقريبا أربع مرات خلال العشر سنوات الأخيرة. ويعد التنامي المتسارع في الطلب الصيني هو السبب المباشر وراء تحويل خام الحديد إلي سلعة استراتيجية في سوق السلع العالمي؛ مما شكل دافعا قويا لظهور نظام عالمي جديد للتسعير. حيث تم الاستغناء عن نظام التسعير السنوي التقليدي، الذي كان متبعا منذ فترة الستينات من القرن الماضي، والذي كان يتميز بعقود طويلة الأجل مع استقرار عام في الأسعار، وتم استبداله سنة 2010 بنظام جديد يعتمد على العقود القصيرة الأجل، وأسعار الصفقات الفورية، وربما هذا ما فتح الباب على حرب أسعار ضروس أدت إلى رفع الأسعار إلى حوالي 180 دولارا للطن سنة 2011.
لكن الصين اليوم لم تعد تكتفي بكونها المسؤولة المباشرة عن جعل خام الحديد سلعة استراتيجية، وتغيير نظام تسعيره عالميا، بل تسعى إلى التحكم في هذه السوق العالمية الضخمة، وهي الآن تعزز من قبضتها على هذه السوق بعد أن استنفرت كل قواها خلال السنوات الأخيرة من أجل كسر موجة ارتفاع الأسعار، وتوفير المليارات التي كانت تتكبدها سنويا في شراء المادة الخام، والآن تلوح في الأفق ملامح إستراتيجيتها ذات الثلاثة محاور، و التي في حالة نجاحها قد تحولها إلى المتحكم الأول في أسعار خامات الحديد في أفق 2025.
المحور الأول : تخفيض القدرة الإنتاجية من الصلب
من المعروف أن نموذج الاقتصاد الصيني يعتمد على استيراد المواد الأولية، وتصدير السلع الصناعية، وقد شكل قطاع الصناعة حوالي 56% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني لسنة2015، وتعد صناعة الصلب العمود الفقري الذي تعتمد عليه كل صناعاتها الأخرى، وهذا ما يجعل من إصلاح قطاع صناعة الصلب حجر الزاوية في عملية الإصلاح الهيكلي للاقتصادها التي تخوضها حاليا، وتسعى الصين إلى خفض قدراتها الإنتاجية من الصلب بحوالي 100 إلى 150 مليون طن خلال خمسة سنوات، وهو ما يمثل حوالي 15% من إنتاجها، وحتى الآن نجحت الصين في خفض طاقتها الإنتاجية من الصلب بحوالي 45 مليون طن خلال السنة المنصرمة، و من المتوقع أن تخفض 50 مليون طن خلال السنة الجارية. كما تسعى الصين إلى التخلص من الفائض المتراكم منذ 2008، وذلك بتصديره، واستغلاله في المشاريع العالمية التابعة لمشروع القرن " مبادرة الحزام والطريق" لإعادة إحياء طريق الحرير البري والبحري، ويتوقع الخبراء أن تستهلك هذه المشاريع حوالي 150 مليون طن من الصلب.
المحور الثاني : إعادة تدوير الحديد المستخدم
شهدت الصين في الآونة الأخيرة تنامي ظاهرة إعادة تدوير الحديد المستخدم، وتسعى الصين من وراء هذه العملية إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة التخلص من أطنان الخردة التي تشكل مشكلة بيئية، و من جهة أخرى استخدامها كبديل لتخفيف اعتمادها على الخامات المستوردة، وتشير تقارير رابطة صناعة الحديد والصلب الصينية إلى أن حجم إنتاج خردة الحديد في الصين قد تضاعف أربع مرات في الفترة ما بين 2002 و 2016 ليصل إلى رقم قياسي حوالي 143 مليون طن سنويا، وهذه الكمية تكفي كبديل عن حوالي 200 مليون طن من خامات الحديد، ومن المتوقع أن يرتفع حجم إنتاج الصين من الخردة إلى حوالي 200 مليون طن سنة 2020؛ وهذا ما جعل الصين الآن تحذو حذو أمريكا بزيادة نسبة الخردة كمادة خام إلى معدلات عالية بدل نسبتها الحالية، حيث تتشكل فقط حوالي 11% كمادة أولية خام تعتمد عليها صناعة الصلب الصيني، بينما تصل نسبة اعتماد صناعة الصلب الأمريكي على الخردة حوالي 70%.
المحور الثالث : خامات المناجم الأفريقية
يشكل الدعم المالي الصيني للحكومات الأفريقية الذي طالما تغنت الصين به بوابتها إلى موارد أفريقيا، وقد وعدت الصين خلال قمة منتدى التعاون الصيني الإفريقي في جوهانسبرج ديسمبر 2015 بتقديم دعم بقيمة 60 مليار دولار إلى إفريقيا، ويأتي هذا الوعد الصيني في ظل وضعها يدها، وتحكمها في مناجم حديد هامة في أفريقيا مثل :منجم تانغ كيلي في السيراليون، و منجم سيماندوفي غينيا، و منجم بونغ بونغ في ليبيريا ومنجم غار جبيلات الجزائري.، مما قد يمنح الصين إمكانية إنتاج أكثر من 100 مليون طن من الخامات الحديد المناجم الإفريقية سنويا. والمفارقة المفجعة أن ما ستكسبه الصين سنويا من فارق أسعار خامات الحديد فقط بعد استخدامها للحديد الأفريقي وضخه في السوق العالمي قد يكون أكبر بكثير من وعدها لأفريقيا.
إن نجاح هذه الإستراتيجية الصينية قد ينتج عنه تناقص في حجم طلبها على المادة الخام بحوالي 400 مليون طن، وربما أكثر خلال السنوات القليلة القادمة، فمن جهة تخفيضها لقدرتها الإنتاجية من الصلب بحوالي 150 مليون طن تعني تخفيض استهلاكها من خامات الحديد بحوالي 240 مليون طن، ومن جهة أخرى رفع نسبة الاعتماد على خردة الحديد كمادة خام إلى مستويات عالية تعني أيضا خفض استهلاكها بأكثر من 150 مليون طن. بالإضافة إلى وضع يدها على مناجم ضخمة في أفريقيا؛ مما قد يجعل منها الدولة الأقدر تأثيرا على ميزان العرض والطلب لهذه المادة في السوق العالمي، و بالتلي المتحكم الأول في أسعارها خلال السنوات القليلة المقبلة، وهذا ما يجعلني أجد نفسي مهتما كثيرا بتقدير ما ستؤول إليه الأحوال في ثاني مشغل في بلادنا بعد الحكومة، وشريان الحياة لأقاليم الشمال، والسؤال الذي يطرح ينفس بإلحاح هو: ماهو مصير حصة بلادنا في السوق الصيني، التي تمثل حوالي 75% من صادراتنا من هذه المادة إن تمكنت الصين فعلا من خفض استهلاكها، وبالتالي طلبها على المادة الخام بحوالي 40% ؟ وهل حقا ستستغني الصين عن الخامات الموريتانية؟