نصيحة قبل السقوط../ محفوظ ولد الحنفي

محفوظ ولد الحنفيالمعارضة الموريتانية إلى أين؟! رغم أنني كنت من أكثر المتحمسين الداعمين للبرنامج الانتخابي للرئيس محمد ولد عبد العزيز، ومن ناشطي حملته الانتخابية في المملكة المغربية، ومن المنتشين فرحا بنجاحه في الشوط الأول من الانتخابات في مواجهة منافسين "شرسين"...

رغم كل ذلك، إلا أنني منذ بداية نذر الأزمة السياسية القائمة الآن، والتي زرع بذرتها الأولى ما سمي ب"الربيع العربي" المتحول جينيا إلى "حريق عربي".. منذ بداية تلك الأزمة إذن؛ وأنا شديد الحرص (في جميع كتاباتي) على عدم اتخاذ موقف المتخندق في صف أي من طرفي الأزمة؛ لا خوفا من تصنيفي مواليا أو معارضا (فلا عيب في أن يمارس المواطن حقه المشروع في معارضة أو مؤازرة نظام سياسي يحكمه وبلده)، ولكنني كنت على قدر من اليقين الجازم بأن الإرهاصات الأولى لهذه الأزمة ينبئ بأننا مقبلون على مرحلة من "الحدية" والتطرف والغلو تحتاج معالجتها لوجود أصوات غير متورطة في الصراع بشكل مباشر، وتمتلك "شجاعة" انتقاد جميع الأطراف، وفضيلة حب نصح جميع الأطراف؛ دون أن تنفر أي طرف عن الاستماع إليها بسبب تحولها إلى خصم له، أو طرف منحاز ضده.. لذلك؛ لا أذكر أنني كتبت مقالا حول أزمتنا السياسية إلا وتضمن مآخذ على الطرفين، وتبنى أطروحات ومواقف للطرفين صراحة أو ضمنا، دون محاباة أو مجاملة؛ بل ضمن نقد حاولت (قدر استطاعتي) أن يظل موضوعيا، وعقلانيا، ومنصفا، وواعيا لحقيقة نسبية القيم والمعايير والأحكام، وانعدام الخير المحض والشر المحض (في هذه الدنيا)، واستلهاما للحكمة الخالدة: (كل آدمي يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم). ولقد كنت أدرك أنني بذلك النهج لن أكسب ود كثير من قادة المتصارعين، وإن لم يخامرني شك في أنني سأظل أشعر براحة ضمير لا تقدر بثمن ولا تكافؤ بمال، وسأكسب مودة كثير من المهمومين بأمن هذا البلد ومصالحه العليا الثابتة قبل كل المتصارعين، والباقية بعد كل المتصارعين.. وكم كان حزني عميقا وأنا أتابع تطورات الصراع في اتجاه لا ينبئ إلا بمزيد اتساع الهوة بين المتخاصمين، واتساع الرتق ليعجز عن معالجته كل الراتقين.. ولا أذكر أنني كنت في يوم مغرورا حتى تحدثني نفسي بأنني القادر على إصلاح ذات بين متخاصمين كشف الواقع استحالة التوفيق بينهما بعد انكشاف أجندات كل الأطراف وتساقط آخر أوراق التوت التي كانت "تسترها".. أجل؛ لقد اتضح كل شيء وانكشفت كل حقيقة لتؤذن باستحالة التوفيق بين المعارضة والموالاة في بلادنا؛ بعد أن أصرت منسقية المعارضة "الديموقراطية" على اختصار جميع مطالبها "المشروعة" في طلب الرحيل الفوري لرئيس منتخب عن مسؤولية حمله أمانة الوفاء بها أزيد من خمسين بالمئة من ناخبي هذا البلد! لقد بدت لي دعوة منسقية المعارضة لإسقاط النظام وفرض رحيله إعلانا صريحا عن عبثية كل دعوة للتوفيق (أو التلفيق) بين المنسقية والنظام القائم.. وبقدر ما كنت قلقا على المصالح العليا لبلدي وشعبي؛ تحول هذا القلق إلى خوف جدي على مستقبل نخبة سياسية لا تجوز الاستهانة بها ولا التفريط فيها ممن همه الأساس الحفاظ على مصالح كل الموريتانيين بغض الطرف عن مواقفهم ومواقعهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية والجغرافية.... يتعلق الأمر منا بالنخبة القائدة والمنظرة والموجهة لمعارضتنا "الديموقراطية".. هذه النخبة التي بدأت تسير بخطى حثيثة ومستعجلة ومتعجلة على طريق الانتحار السياسي، أو التقاعد السياسي بفعل عمى كفها عن رؤية الطريق الآمن للوصول إلى أهداف ممكنة بوسائل مقبولة ولغايات مشروعة.. وإذا كان المثل الشعبي يقول "إن كسب ود البالغ خير من حماية مصالحه" (لمكلف أخلاكو أخير من همو)، فإن المشكلة هنا تكمن في أن المصالح المعرضة للخطر جراء خيارات ومواقف نخبنا السياسية المعارضة هي مصالح غير مرتبطة فقط بهذه النخبة؛ بل تتعداها إلى مصالح الأمة، والشعب، والدولة.. جميعا!!! ولست أقصد هنا بتلك المصالح ما قد يتبادر للذهن من مصالحنا جميعا في الاستقرار والأمن، وفي الابتعاد عن العنف والفوضى والحروب والفتن الداخلية، وما يترتب على تجارب التغييرات العنيفة للنظم كما رأينا أمثلته في ليبيا، واليمن، وسوريا.. وفي بعض الدول الإفريقية التي تحولت إلى أثر بعد عين.. أبدا؛ لست أعني شيئا من ذلك ولست أخافه على بلدي (في الظروف الراهنة على الأقل).. لست أعنيه؛ لأني أعني غيره مما سأتطرق له بعد قليل.. ولست أخافه على بلدي للأسباب التالية: 1)- لأن مطلب الرحيل الذي اختارته المعارضة عنوانا لنضالها هو مطلب يحمل في ذاته بذور هدمه ورده وهده؛ فضلا عما يكشفه بوضوح من لا ديموقراطية معارضتنا "الديموقراطية"؛ ويضعف بالتالي حجتها وقدرتها على كسب التأييد والدعم اللازم لتحقيق مطالبها المستحيلة موضوعيا.. 2)- وهذا المطلب مستحيل التحقق موضوعيا، أولا: لأن الرئيس المنتخب (في انتخابات أشرفت عليها المعارضة، وزكتها، واعترفت بنتائجها) لن يقبل هذا الرحيل، وما ينبغي له، وما يستطيع... وثانيا: لأن المطالبين به لا يمتلكون قدرة فرضه ولا شجاعة دفع ثمنه، وهو ما أبانت عنه جميع مظاهراتهم و"اعتصاماتهم" التي ماتت كلها حتى قبل أن تغادر غرفة ولادتها على أطراف الألسن وهي لم تزل بعد شعارات لم تبلغ حتى مرحلة الحبو نحو التحقق واقعا عمليا!! وعلى فرضية أن قادة المعارضة يمتلكون إرادة وشجاعة وحكمة تحقيق مطلبهم؛ فإنهم لا يملكون السند الشعبي والجماهيري اللازم لفرض تحقيقه؛ ليس فقط لأن القرينة الوحيدة المتاحة للحكم على اتجاهات الأغلبية هي آخر انتخابات رئاسية، وهي قرينة تؤكد على أن هذه الأغلبية ليست في صفهم؛ وإنما أيضا (وبالأساس) لأن هذه الأغلبية ليست مصابة بالعمى السياسي الذي تعانيه تلك القيادات والذي أوقعها في ورطة اختيار الأهداف المستحيلة والغايات المرفوضة عقليا وواقعيا.. 3)- ذلك أن الشعب إنما هو حاصل جمع فرادى المواطنين، وهؤلاء المواطنون إما أنهم مؤمنون بالخيار الديموقراطي أو غير مؤمنين به؛ فأما المؤمنون به فتكفيهم ديموقراطيتهم سببا مانعا لهم من تبني هذا المطلب؛ إضافة لسبب آخر يجمعهم بغير المؤمنين بالخيار الديموقراطي (إن وجدوا)، وهو عدم إصابتهم ب"العمى السياسي" الذي جعلهم يرون ما لا يراه "قادة معارضة الرحيل".. 4)- نحن نعلم أن مطلب "الرحيل" لم تنبته تربتنا الوطنية، ولا استدعته أوضاعنا الداخلية، بقدر ما حقنته أحداث "الربيع العربي" في عقول قادة معارضة متعطشة للسلطة ومتعجلة على امتلاكها وهي ترى حكاما يتساقطون تحت صيحات "ارحل" المنطلقة من حناجر الغاضبين في تونس ومصر، أو ضربات القذائف الحاقدة المنفوثة من براكين طائرات الناتو في ليبيا، أو تحت ضغط مصالح حكام الخليج في اليمن... ولم ير قادة "معارضة الرحيل" من المشاهد التراجيدية في تلك البلدان غير رحيل حكامها؛ بينما رأى الشعب الموريتاني المشهد كله؛ بجميع تفاصيله وتداعياته وآثاره: لقد رأى شعبنا رحيل الحكام المستبدين؛ ولكنه أيضا رأى الآلاف الذين قتلوا، ومئات الآلاف الذين جرحوا وشردوا.. رأى الأرض التي اشتعلت، والبنى التحتية التي دمرت، والمصالح العامة التي نسفت، واللحمة الاجتماعية التي قطعت، والقوى الدولية التي تدخلت ولبعت وتلاعبت وتثعلبت.. ثم رأى خواتيم الأمور ونتائجها، سواء تعلق الأمر بالثورتين التونسية والمصرية؛ أو بالفتنتين الليبية واليمنية... رأى كيف تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا الجريحة ليحرق الأرض وما عليها، ويهد الدولة ويبيد من عليها، ثم رأى احتفالات "الثوار" بنجاح محرقة الحلف ومجازر طائراته، تماما كما رأى هؤلاء "الثوار" وهم يصفون حساباتهم مع كل مخالفيهم قتلا وسحلا وإذلالا وقهرا؛ ثم يشتبكون مع بعضهم في حرب اقتسام الدولة الفريسة الممزقة؛ قبل أن يلوح كل طرف بأحقية قبيلته، أو جهته، أو جماعته في السلطة والمغنم!! ورأى شعبنا كيف اقتتل اليمنيون ومزقوا وتمزقوا من أجل أن ينتهوا إلى اتفاق صاغه الخليجيون وفرضوه من أجل رحيل علي عبد الله صالح للتمتع بأموال شعبه؛ مقابل بقاء جميع رموز نظامه وحكمه!! ورأى شعبنا كيف ما زال التونسيون (رغم النجاح الكبير الذي حققته ثورتهم) عاجزين عن استعادة الأمن والسلام لبلدهم المحفوظ إن شاء الله. ولم تكن الثورة المصرية أقل تحضرا ومدنية من سابقتها التونسية، وقد رأينا كيف انتهت (ولا نريد) لعودة نظام مبارك بكل أجهزته، وممارساته، وصفاته، وصفقاته، وصفاقاته!! أما في سوريا فإن ما يُرى تعجز البلاغة عن وصفه أو حصره! لقد رأى شعبنا كل ذلك، حتى وإن عمي أو تعامى عنه قادتنا المعارضون؛ لذلك قلت إنني لا أخاف خطرا يتهدد أمننا واستقرارنا العام لأن شعبنا قد خبر (مشاهدة وسماعا) نتائج ما يدعوا إليه هؤلاء المعارضون، وهو أذكى من أن لا يتعظ بتجارب عاشها بكل تفاصيلها، ومآسيها، وصدماتها، وإخفاقاتها، وأثمانها الغالية.. إذن؛ محل الخوف ليس شيئا من ذلكم، ولكنه خوف على الديموقراطية التي لا تقوم ولا تستقيم إلا بوجود قطبين (موالاة ومعارضة)، وإني لأرى في نهج "معارضتنا المقاطعة" سيرا حثيثا على طريق ضامن الوصول لموت أكيد؛ إذ لا شيء أضمن لموت السياسي من تبني الأهداف المستحيلة والسير في الدروب المغلقة، وإن تراجع شعبية هذه المعارضة المشهود ما هو إلا بسبب تبينها لأهداف "ثورية" لا سياسية ولا مبررة سياسيا؛ سواء بسبب ما أوردناه سلفا، أو بسبب التاريخ اللا ثوري لأغلب أو كل قادة هذه المعارضة... وإننا والله لحريصون على أن تظل المعارضة السياسية الناضجة، الواعية والواقعية (لا الوقوعية ولا الطوباوية) قائمة ببلدنا حفاظا على توازن أوضاعنا السياسية، ومنعا لقيام نظام "استبداد الأمر الواقع" الذي يترتب تلقائيا على انفراط عقد المعارضة وخورها وعور رؤاها؛ حتى وإن لم يكن نظام الحكم مريدا للاستبداد أو راغبا فيه!! وإن أمام هذه المعارضة فرصة تاريخية للخروج من ورطة مطالبها اللاسياسية وأهدافها المستحيلة من خلال قبول المبادرات السياسية المطروحة في الساحة الآن سواء من قبل ما يعرف ب"النداء من أجل الوطن"، أو من طرف الرئيس مسعود ولد بلخير؛ آملا أن لا تكون بعض التكهنات المتداولة صحيحة والقائلة باشتراط هذه المعارضة لقبول أي مبادرة أن يتعهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز بعدم الترشح لمأمورية ثانية؛ لأنه لا فرق بين هذا الشرط وبين طلب الرحيل؛ حيث كلا الأمرين يعبر عن اعتداء (من موقع الضعف) على حق مشروع لمن هو أقوى وضعا (سياسيا وقانونيا) من واضع الشرط والمعتدي على الحق!! إنه لا قدرة للمعارضة ولا لغيرها على فرض رحيل رئيس منتخب؛ اللهم إلا إذا كان ذلك بواسطة صناديق الاقتراع، وتلك مسألة مختلفة؛ لأنها تتعلق بإرادة الشعب السيد والمواطن الحر في اختياره والذي لا يملك أحد سلطة فرض إرادة عليه بالإبقاء على هذا النظام أو بالتخلص من ذاك النظام، لكن تلك إرادة لا تعبر إلا عن نفسها بأسلوب عد الأصوات التي تفرزها الانتخابات.. إنها نصيحة قد تكون قاسية لمعارضتنا، وإنني لأعلم أن فيها من هم أفصح مني لسانا، وأحد مني أقلامنا، وأقدر على شيي على سفود المساجلات الخطابية التي لا ترحم، ولكن الأمر لم يعد يتعلق عندي بشخصي ولا بشخوص آخرين غيري؛ بل بمصالح الأمة والدولة والمجتمع جميعا، وباحترام العقل والمنطق والحكمة والمصالح العليا قبل كل شيء، وبعد كل شيء... هي إذن نصيحة لبعض قادتنا المعارضين إن كانوا ينتصحون، وأيضا... لعلهم يستيقظون..

20. يوليو 2012 - 13:58

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا