أزمة المطالعة والإبداع الفكري في واقعنا المعاصر / محم ولد الطيب

احتفظت موريتانيا بصورة نمطية في المخيال العربي وحتى العالمي، تقدم موريتانيا على أساس أنها بلاد المنارة والرباط وبلاد المليون شاعر وبلاد العلم والعلماء وغيرها من التوصيفات المرتبطة بالتضلع في العلم والتمكن من ناصية المعرفة والتفوق البديهي على نظيراتها، حتى بات الحديث عن علم الموريتانيين وثقافتهم الموسوعية مضربا للأمثال لكونه حقيقة لا تقبل المجادلة، وصار المثقف الموريتاني مقدما على غيره من دون اعتراض أو ممانعة من الغير. ولإن كانت هي تلك صورة المثقف الموريتاني قديما وقد أثبتت جدارة موريتانيا وريادتها في مجال العلم والثقافة، فإن الأجيال الجديدة التي كان منتظرا منها أن تواصل المشوار وتثبت جدارتها، قد خذلت تلك الصورة التي ألصقت بموريتانيا قديما، فلم يعد العلم والثقافة عند الأجيال الجديدة يزنان جناح باعوضة  الأمر الذي يتجلى واضحا في العزوف القاتل عن القراءة والتأليف، فالجهد والحماس العلميان اللذان تملكا المثقف الموريتاني القديم  استعاض عنهما المثقف الحديث بتكديس وحشد الشهادات الجوفاء التي لا تعبر عن مستوى حاملها بقدر ما تعتبر حجة دامغة على تدني مستواه العلمي، فالشهادة اليوم لا تعبر عن علم وثقافة صاحبها، فلرب حامل شاهدة عالية أوقعته في الحضيض.

قد لا يكون هذا التوصيف عاما لكنه هو الصورة المعبرة عن واقع الثقافة المعاصر في موريتانيا،  هذا على الرغم من وجود حالات فردية تفلت من هذا التوصيف، ولكنها قلية للأسف. ولعل من بين الأسباب الواقعة خلف هذه الكارثة الثقافية التي اجتاحت موريتانيا مؤخرا هو:

 أولا: القطيعة التامة بين "المثقف" الموريتاني والكتاب، فالموريتانيون لم يعدوا قراء سواء  أكانوا تلاميذا أو طلابا أو مثقفين أكاديميين، فبالنسبة للتلاميذ فلا يقرءون ولا يطالعون كما هو منتظر منهم نظرا لعدة أسباب اولها انتشار الهواتف وشبكة الأنترنت التي لا يحفلون من خلالها بالمطالعة بقدر ما يركزون على توافه الأمور. ثانيها خفض الوزارة معدل النجاح في الامتحانات في ختم الدروس الابتدائية، وخفضه كذلك في التعليم الثانوي إلى معدل(8) من عشرين، وثالث سبب يجعل التلاميذ يعزفون عن المطالعة هو انتشار الغش انتشار النار في الهشيم بين التلاميذ، وهي معضلة لا حل سَهل لها نظرا للتكتيكات التي يستحدثها التلاميذ يوما بعد يوم للغش. أما فيما يخص الطلاب الجامعيين، فإننا نجد أن الطلاب يركزون على الحصول على الشهادة أكثر من تركيزهم على تكوين انفسهم من خلال مطالعة الكتب والاستزادة من المعرفة، غير مدركين أن الشهادة مثلها مثل الطنجرة للطعام ، فلا تكفي الطنجرة دون الطعام، لكن قد يُأكل طعام دون المرور على طنجرة. ومفاد ذلك أن الشهادة وحدها لا تكفي بل لابد من زاد معرفي يسوغ لتلك الشهادة  وآية ذلك أن الشهادات اليوم كثيرة ولكن العلم قليل وتلك مفارقة عجيبة.

 أما بخصوص الأكاديمين ، فإن ثمت مشاكل  عويصة يقع ضحيتها الكثير من الأكاديميين، أبرزها  الانخرط المبكر في السياسة والتماهي مع غوغائية العوام فيها، الأمر الذي يسد الباب أما احتمالات المطالعة والقراءة والإنتاج العلمي وهذا ما يفسر أحيانا رتابة ما يقدمه بعض الأكاديميين لطلابهم حين يلجأ بعضهم إلى تكرار ما كتبه في أوراق صفراء بالية قدمها لطلابه منذ عشرات السنين دون تجديد أو إضافة، وربما لجأ أحيانا إلى ما تجود به الأنترنت دون تحوير أو معالجة، هذا فضلا عن عزوف بعض الأكاديميين الجامعيين عن التأليف والنشر، فلا أستاذ جامعي دون باحث كما يقول الفيلسوف الجزائري الراحل محمد أركون، وهذا ما ينقصنا نحن هنا في موريتانيا، وما ذاك إلا مظهرا من مظاهر العزوف عن المطالعة والإبداع الفكري، فتارة تجد أكاديميا موريتانيا خبرته في تدريس الجامعة قديمة، لكنك تصدم حين تلتمس وجود كتاب مؤلف له فلا تجده.

   لكن هذا لا يعني انه ليس  هناك مبدعون قدموا إبداعات فكرية عارمة للساحة الثقافية، إلا أنهم قليلون جدا

 ثانيا: أما السبب الثاني الذي يقف خلف هذه الكارثة، فهو طبيعة المجتمع الموريتاني المفتوح الذي لا يترك فرصة للمثقف ليخلو بنفسه لترتيب أولوياته ،وهذا مارسخ طغيان ثقافة العوام التي تفتقر للعمق والتي تقف حاجزا منيعا اما أي إبداع فكري وعلمي.

و بناء على ماسبق فإنني أرى أن موريتانيا لن تخرج من هذه الأزمة الثقافية الخانقة وتعود سيرتها الأولى  ما لم يتصالح مثقفوها مع الكتاب

21. يوليو 2019 - 12:30

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا