مال وأعمال .. صناعة النسيج / محمدو ولد البخاري عابدين 

بثت قناة الموريتانية  في فقرتها من " مال وأعمال " الليلة قبل البارحة تقريرا عن صناعة النسيج في بلادنا، وتحدثت العاملات في هذا المجال، بمن فيهن مديرة الشركة الموريتانية للزرابي الناشطة المخضرمة ورائدة هذا النشاط السيدة فيفي منت أفيجي للمرة الألف عن قيمة هذا النشاط التراثية والإقتصادية والتشغيلية، وعن المعوقات التي لا زالت مطروحة أمامه، وعن ما ينقص المشتغلات به من وسائل وطرق تمويل ليصبح ركيزة أساسية في النسيج الإقتصادي كما وكيفا.. حيث يشغل هذا المعمل والتعاونيات المتعاونة معه ما يزيد على 2000 عاملة، وينتج سنويا ثلاث كيلومترات ( 3000 متر ) من السجاد، وقد تابعت هذه الحلقة كاملة لأنها تتحدث عن مجال يهمني وأرى فيه من المردودية وفرص التشغيل وتنويع الإقتصاد ما أشعر أنه يغيب عن بال المخطيين الإقتصاديين الوطنيين وهم يخططون ويتحدثون عن فرص التشغيل وعن تنويع الإقتصاد وعن تثمين المقدرات البشرية..

مجال كتبت عنه عديد المرات ولن أمل الحديث عنه، خصوصا وأن المتحدثات من المشتغلات بهذا النشاط تحدثن في هذه الحلقة عن نفس رؤيتي التي قدمتها مرات عديدة حول أهمية وإمكانية ومردودية تحويل هذا النشاط من نشاط حرفي تقليدي تراثي صرف إلى نشاط اقتصادي بوسائل حديثة، وليس لدي اليوم ما أضيفه في هذا المقال سوى " قص " ما سبق وأن اقترحته في هذا المجال و" لصقه " هنا للتذكير به آملا أن أرى هذا النشاط ركيزة أساسية في إقتصادنا وصناعتنا متحدثا عن نفسه بأرقام مردوديته ومداخليه، فهذا النشاط هو فعلا مال وأعمال إذا توفرت له وسائل الإنتاج الحديثة وتوسع إنتاجه وتطورت نوعياته وزخارفه وألوانه، مال بما سيدره من دخل للدولة واقتصادها، وأعمال بقدرته الاستيعابية التشغيلية الكبيرة.

ولكن لابد قبل التذكير بما أقترحه سابقا في هذا المجال من التعليق على حديث مسؤول الصناعة التقليدية والحرف بوزارة التجارة والصناعة والسياحة الذي كان ضيفا على هذه الحلقة، وقوله إن الدولة تكتفي من حيث الدعم لهذا النشاط بزيادة الرسوم الجمركية على السجاد المستورد، وهو ما لا أراه كافيا ولا مجديا لكون زيادة الرسوم الجمركية على أي منتوج أجنبي بهدف تشجيع نظيره محليا يتطلب أن يكون المنتج المحلي منافسا من حيث النوعية ومن حيث كم الإنتاج، وإلا فأنت تزيد السعر على المستهلك دون أن توفر له منتجا محليا بديلا ملبيا لذوقه وكافيا من حيث التوفر في السوق.. وهو ما لا ينطيق بالمرة على المنتج  من السجاد المحلي الذي لا هو متوفر في السوق بوفرة بسبب ندرة وصعوبة جمع مواده الأولية المتمثلة في وبر الإبل، بالإضافة إلى بدائية وسائله وقلة عدد المشتغلين به حيث يتطلب إنتاج السجادة الواحدة منه عدة أسابيع، ولا من حيث سعره الغالي لنفس الأسباب أيضا، ولا هو كذلك ملبيا لأذواق المستهلكين في سوق يعج بأنواع السجاد الأجنبي الفاخر بتصاميمه وملمسه الناعم وزركشاته ونمنماته وألوانه الزاهية..

وبالتالي فالأولى والأجدى تكثيف الدعم لهذا النشاط لتحديث وسائل صناعته وزيادة إنتاجه سواء كان عن طريق الدعم المباشر من الدولة أو الأخذ بأيدي المشتغلات به لمنافذ التمويل المحلي من طرف البنوك، أو على شكل شراكات بين القطاعين العام والخاص ليصبح منافسا كما ونوعا، ومن ثم زيادة الرسوم على السجاد الأجنبي لحمايته، بالضبط مثلما فعلت الدولة مع إنتاج الأرز الذي كان يتم إنتاجه بكميات قليلة لا تكفي السوق، وبنوعية رديئة لا تلبي ذوق المستهلك، وبتشجيع زيادة إنتاجه والتحسين من نوعيته زاد الإقبال علي استهلاكه محليا، وشجع ذلك فاعلين جدد لدخول ميدان إنتاجه.. ولن يتطور إنتاج السجاد هو الآخر إلا إذا زاد إنتاجه وأصبح مماثلا للإنتاج الأجنبي من حيث النوعية، وبزيادة إنتاجه وتحسين نوعيته سيزيد الإقبال على اقتنائة فيسهل تسويقه وبالمقابل يشجع ذلك فاعلين وفاعلات جدد للإنخراط فيه كنشاط منتج مدر للدخل ومشغل واسع لليد العاملة خاصة تلك منها التي لا تقدر على ممارسة أنشطة أخرى كالنساء..

 منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي، والشركة الموريتانية للزرابي في مكانها بمقاطعة لكصر بنفس البناية والوسائل ونفس الإنتاج، حيث ظل إنتاج هذه الشركة يقتصر على إنتاج قطع من السجاد وبكميات محدودة نظرا لندرة المواد الأولية المتمثلة في وبر الإبل، بالإضافة إلى نقص الموارد والوسائل اللازمة لتكوين العدد الكافي من اليد العاملة وتطوير وزيادة الإنتاج، مما جعل هذا النوع من السجاد يأخذ طابع إنتاج حرفي غالي الثمن لا يمكن تسويقه إلا من خلال عرضه في المعارض التراثية الدولية، أو باقتنائه من طرف بعض المؤسسات الرسمية كالرئاسة والوزارات بهدف التشجيع.. فلا أثمانه متاحة للكثير من المستهلكين، ولا هو ملبيا لأذواقهم من ناحية ألوانه وتصاميمه أمام أنواع السجاد المستورد.

لقد ظلت هذه الشركة في مكانها ووسائل إنتاجها، لكنها مع ذلك كونت مجموعات من النسوة اللاتي أصبحن يتقن هذه الحرفة، ولا تزال قادرة على تكوين المزيد منهن لو توفرت لها الموارد، وهي بالتالي بنية تحتية قائمة سيكون من المفيد جدا استغلالها في قيام صناعة نسيجية بشكل أوسع، فقد تركزت اقتصاديات مهمة وقامت حضارات كبيرة على النسيج عبر التاريخ، كالحضارات الفارسية والعثمانية والصينية.. إلا أن السجاد الإيراني هو اليوم من أفخر أنواع السجاد العالمي بزخارفه وألوانه وملمسه، وتبلغ مداخيل البلاد منه 440 مليون دولار سنويا 80% منها موجهة للتصدير.

لا يوجد بيت موريتاني، في الحضر خصوصا، إلا و به قطعة سجاد على الأقل، ومن لا يستطيعون اقتناء السجاد الفاخر من المواطنين يلجأون لاقتناء الأنواع العادية منه، ذلك أنه من أساسيات أمتعة وديكور البيت الموريتاني.. مما يجعل صناعته بهدف تغطية السوق المحلي، كهدف أولى، صناعة مجدية بشرط أن تكون منافسة ومتنوعة وملبية لأذواق الجميع، وذات أسعار تأخذ في الاعتبار مستويات المستهلكين، ليكون منها الفاخر بالنسبة للقادرين، ومنها المتوسط ومنها ما دون ذلك. وقد تدخلت خيرية " اسنيم " مؤخرا في هذا القطاع وذلك بتمويل مراكز لتجميع الوبر داخل البلاد، لكن ذلك سيظل في إطار محدود يكرس النظرة لصناعة النسيج كنشاط تراثي، وليس كمورد اقتصادي هام لو أحيط بالعناية لعادلت مردوديته مردودية قطاعات إنتاجية أخرى، ولتفوق على تلك القطاعات بسهولة ممارسته في كل مناطق البلاد، وبقدرته على استيعاب أعداد كبيرة من نساء الريف العاطلات بل وحتى رجاله، فالنظرة السائدة عندنا بكون النسيج نشاط نسوي بحت هي نظرة تخصنا وحدنا ولكنها ليست مسلمة، فالكثير من معامل النسيج بالعالم يشرف عليها رجال..

فالمطلوب إذن هو استيراد خيوط النسيج المتوفرة عالميا بنوعيات وألوان مختلفة، بالإضافة إلى أدوات وآلات النسيج اليدوي، وتكوين النساء على تقنيات النسيج الحديثة، وأنا متأكد من أن النساء الموريتانيات قادرات بعد تكوينهن على إنتاج أنواع فاخرة من السجاد بنمنمات ورسومات هندسية وألوان لا تقل جودة عن تلك المستوردة والموجودة اليوم في الأسواق المحلية، ولا تعارض بين إقامة معامل نسيج عصرية بهدف تجاري، وإبقاء شركة الزرابي على الجانب الحرفي التراثي من إنتاجها إذا كانت ترى ضرورة للإبقاء عليه.

والنسيج يتميز دون غيره من الأنشطة الأخرى بكونه أحد الأنشطة غير المعقدة، والتي لا تتطلب مستوى عاليا من التعليم ولا الكثير من الوسائل، حتى أنه يمكن تركيب آلات للنسيج اليدوي في غرفة من طين أو كوخ من قش في قرية نائية.. ومن المعلوم أن أريافنا وقرانا تتميز بهجرة الرجال إلى المدن بحثا عن عمل وبقاء النساء بدون عمل ما عدا الأعمال المنزلية، ولنتصور المداخيل المهمة التي ستدرها صناعة النسيج لو تم تكوين مجموعة من النسوة بكل قرية وكل مدينة وتزويدهن بخيوط وآلات النسيج، على أن تكون تلك الوحدات الإنتاجية تحت إدارة وإشراف وتأطير تنسيقية واحدة، وخير من يتولى تلك التنسيقية هي شركة الزرابي الحالية بحكم خبرتها وتجربتها الطويلة في هذا المجال، لتكون المناطق الداخلية مناطق إنتاج، وتكون العاصمة مركز تجميع وتسويق. فمئات الملايين التي يتم تخصيصها سنويا للتعاونيات النسوية، والتي تصل لكل تجمع نسوي بمبالغ ضئيلة بسبب كثرة تلك التعاونيات فتضيع دون أن تكون لها مردودية، لا على الدورة الاقتصادية ولا على التعاونيات نفسها، لو تم توجيه تلك المبالغ المهدورة سنويا لإنشاء مجمعات نسيج في الداخل لكانت فائدتها أكبر وأعم.

وقل نفس الشيء عن صناعة النعل محليا والتي كثيرا ما تبث قناة الموريتانية أيضا تقارير ولقاءات مع أصحاب ورشاتها، فنحن أيضا بلد منتج للجلود بشكل كبير، وفيما عدا الجزء اليسير الذي تستوعبه الصناعات التقليدية الجلدية مما تنتجه المسالخ يوميا من الجلود، فإن وجهة الباقي منها هو التلف، أو ما يشتريه أجانب بأثمان بخسة يقال إنهم يصدرونه لنيجيريا التي تعتبر الجلود مادة غذائية في بعض مناطقها! في الوقت الذي لدينا صناع تقليديون مهرة منذ عقود وهم يُشغلون معامل بسيطة لصناعة أنوع جيدة من النعل ك " زار " و " أدراما وابناؤه " وغيرهم لكنهم أيضا، على غرار شركة الزرابي، يعانون من نقص الوسائل والموارد، ويعتمدون على وسائل بدائية مما يجعل ما ينتجونه من النعل محدود الكمية وغالي الثمن.

هذا النشاط لو أحيط هو الآخر بالعناية، وتم النظر إليه كنشاط له مردودية كبيرة، فسيكون له أثر كبير في مجال التشغيل واستغلال الموارد المحلية، لكن ذلك لن يتحقق إلا بإدخال وسائل الإنتاج العصرية في صناعته، كالتقنيات الحديثة لدباغة الجلود وتقويتها وصباغتها وتلميعها وأدوات نقشها وماكينات الخياطة الخاصة بها، وكلها متوفرة في الأسواق العالمية، ولا ينقص سوى اقتناؤها ومن ثم تكوين صناع النعل الحاليين، وكل من لديه موهبة في هذا المجال على هذه الأدوات، وإقامة وحدات إنتاج عصرية يتم التركيز في إقامتها على المناطق الداخلية أساسا لتشغيل الكثير من العاطلين عن العمل هناك، وخلق أنشطة موازية بعضها لجمع وإعداد الجلود، وبعضها لدباغتها وتلميعها، وبعضها الآخر للإعداد النهائي والتصنيع وذلك لتوسيع شبكة المستفيدين. ومهما تكن نوعية هذا النعل فإنها ستظل ذات جودة أعلى من الكثير من المنتجات القادمة من الصين مثلا والتي أغلبها ابلاستيكي، بل أنها قادرة على مسايرة أنواع النعل الإيطالي وستتميز عن كل هذه المنتجات بكونها صناعة وطنية تطال فوائدها وعائداتها أكثر من جهة.

 

26. يوليو 2019 - 17:27

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا