فن التأصيلِ والتثمينِ والإعتبارِ... / باب ولد سيد أحمد لعلي

مثلما انتفضنا مرة إذ سمعنا منادي الوطن ينادي أن حي على البناء والإجماع لنراجع الماضي ونعترف بكل فضل ونقدر كل ظرف وننظر إلى الأمام بأعين أخرى وبوسائل أخرى وعزائم متجددة ، ها نحن نتفض بنفسِ النفس حاملين نفس الهمة ونفس الطموح داخل نفس المشروع الذي دعا له الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مذكرين ومثمنين ومنبهين ، لعل الشمس التي انتظرنا تبزغ من فجر الحرية وتكسر كل تابوهات الماضي ، أو لعلها تُمطرُ ذات مساء بعد طول انتظار وطول تحري.

فقد حان الوقت حقا لإعادة التأسيس والبناء من جديد والاهتمام أكثر بالجواهر حتى تتلائم في تطورها مع الظواهر ، آن للحرية أن تبلغ مداها المنظم وآن للتعددية أن تشبع من فوضاها الركيكة وآن أيضا للمؤسسات أن تقف على رؤى مختلفة ومقتضبة حسب توجهات معينة من إجل إتمام الإصلاح وحمل الشعلة بنجاح وإحقاق التفويض وتثمين أي مكتسب.

لأننا ضمن مشروع نادى به الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني تجاوز الانتماءات الضيقة وأحق أخلاقية الفعل السياسي واعترف بكل مجهود مهما كان واعتبر كل مناوئ حيثما كان وعذر كل مخطئ بحسن نواياه في أي زمن ، وهو لعمري أمر تجاوز المتجاوز وأسس للجديد التليد الذي من شأنه أن يخلق الفكر الأصيل الذي من خلاله ترسخ الثوابت وتبنى المتجددات وتتعزز في سقف يسع الجميع ويؤسس لمرحلة جديدة سيكون لها ما بعدها إن أُحسن تسيرها بدقة كما جاءت في البرامج الانتخابي .

وهي مسائل عدة شملت جميع المستويات والاختصاصات كانت فيما يبدو نتجية لفحص دقيق للواقع الاجتماعي والسياسي بطموح متقد يراعي الواقع ويعترف بكل شيء فيه.

إلا أنه من الأمور التي تصب في تثمين الموروث الثقافي والاجتماعي  أيضا كما ورد في برنامج رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بطرق أكثر دقة وهذا أمر يتطلب المعرفة الشاملة للمروث ذاته ومحاولة الانتقال به ليتجسد ذاتا حسب إملاءات المعاصرة وتعيش روحه في مجسمٍ أكثر ملاءمة وأكثر إمكانية للغربلة والإحياء والتجديد ، تماما كما عبر عن ذلك المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كاتبه نحن التراث حيث ناقش اشكالية جد عميقة وهي : كيف نتحول من أمة يحكمها التراث إلى أمة لها تراث؟.

من أمة تعيش في التراث وفي الماضي بحلول تام وذوبان مفرض دون الوعي بمتطلبات الحاضر وخصوصياته حتى لا تبصره إلا من خلال الحاضر ، إلا أمة تستطيع أن تواءم هذا التراث مع الحاضر وأن تصحح شوائبه به لكي تتحقق ذاتها دون تناقض وترتكز على ثوابتها دون النفور منها إلى المجهول وتتقدم دون أن تصطدم بعتبة الجهل واللاوعي والتخلف.

إن من أهم الأمور التي ظهرت في عصر العولمة الحالي هو بروز الهويات والخصوصيات القومية في ظل اتصال العالم وترابطه بهذه الدرجة وفاعلية المؤسسات العابرة للقارات وانتشار ما بات يعرف بالقيم العالمية الموحدة ، وهو أمر يستدعي دوما استحضار الذات المحلية والخصوصية الوطنية في ظل هذه المؤسسات الكبرى الفاعلة والعابرة للقارات ، وهو عبر يُحتم علينا نحن معشر الموريتانين الحفر في التاريخ الثقافي وتميز قيمنا الحضارية التي تخصنا نحن دون غيرنا كشعب خاص وأمة مميزة دون غيرها تماما كما ورد ذلك في برنامج الرئيس ولد الغزواني.

والحفر في هذه الذاكرة يتطلب أولا الاعترف بالأدوار الاجتماعية المختلفة التي كانت تشغلها كافة الفئات والشرائح في المجتمع القبلي – أي ما قبل الدولة- وتخليد ما يصلح منها في خدمة الواقع الثقافي الحالي وإحيائه في الذاكرة الجموعية كروح تضبط القيم الوطنية الموحدة وتثمن كل دور داخل النسق الاجتماعي ، وطبعا لا يمكن لهذا المشروع أن يتم إلا بآلية تثقيفية حية ومركزة تمسح شوائب الوعي المناقض لمتطلبات القيم الوطنية وتبعثه بما تتطلب إملاءات القيم الوطنية التي هي ضمان الوحدة وضمان الاستمرار.

إن الفن الحساني بما يسخر به من قيم مختلفة تقدس مقدسا مدحا أو تقدر شيخا مقدرا أو تعبرُ عن واقع معين هي في مجملها أدوات تعبير قد يهربُ من خلالها الفنان إلى واقع مشتهى من واقع مر متحجر على القلب والجسد ، في ذات الوقت الذي قد يعبر عن ترف معين في النسق الاجتماعي المتكون ، وفي كلتا الحالتين يجبُ أن تلتقي القيم العلوية أي قيم الطبقة السائدة بالأخرى المسودة في ثوب وطني جامع يقدرُ كل الاتجاهين ويحيهما.

كما أن النموذج المحظري الذي يميز الخصوصية الموريتانية دون غيرها من المجتمعات العربية والإسلامية نموذج يستحق الإحياء والتحديث والبحث في طرقه وأسباب تأسيسه وانتشاره وارتباطه بقيم المجتمع ارتباطا عجز من خلاله المسعتمر على محوه أو تهميشه كما عجزت عن ذلك الدولة الحديثة التي ورثت آليات المستعمر وإدارته ، وقد أصاب الرئيس حين تعرض لإحياءه وتثمينه بأسلوب مفاجئ وجميل.

فقد أوصى كبولاني بتحويل المحاظر مرة  إلى جامعات من أجل إدخال الأسلوب الغربي في التعليم مع الأسلوب المحظري بطريقة تُرغب ساكنة موريتانيا أكثر في تعليمهم ، وقد شكلت المحاظر أيضا أكبر مقاوم للمستعمر ، وهو ما يستدعي الاهتمام بها وتثمينها كأكبر أساس للوطن ولوحدته وهويته.

فقط لأننا نتظر موريتانيا مختلفة.

21. أغسطس 2019 - 20:41

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا