مع الرئيس.../ محفوظ الحنفي

altأن يصاب أي شخص بطلق ناري أو بغيره؛ فهو أمر عادي في ذاته، ما دام الأمر يتعلق بقضاء الله الذي لا مرد له.. غير أن حادثة إطلاق النار على رئيس دولة ثم إصابته إصابة بليغة (حتى ولو كانت غير خطيرة) هو أمر لا يمكن النظر إليه إلا على اعتباره كارثة تحل بالدولة والشعب والأمة جميعا..

لذلك لم تكن غريبة أبدا حالة الصدمة والذهول التي أصابت الموريتانيين منذ اللحظات الأولى لإعلان الخبر.. وما زالت تلك الصدمة تصاحب العديد منهم حتى اللحظة وهم يتطلعون بلهفة شديدة لكل خبر عن رئيسهم الذي يتعالج في إحدى المصحات الفرنسية.. أعاده الله سالما غانما.

 غير أن صدمة إصابة الرئيس سرعان ما لحقت بها صدمة أخرى أعظم وأطم حين انكشف للناس كم هي زائفة ومزورة وخادعة أغلب مظاهر الوطنية والإنسانية والقيم الأخلاقية التي يتظاهر بها العديد من نخبنا السياسية والثقافية..

ففي الوقت الذي تدفق فيه الآلاف من المواطنين العاديين بشكل عفوي على المستشفى العسكري الذي ظلوا يتحلقون حوله حتى ساعة متأخرة من الليل للاطمئنان على صحة الرئيس؛ ظل العديد من قادة النخبة السياسية أسيرين للصمت المطبق والتردد الشديد في إعلان موقف أو التعليق على الخبر في انتظار الكشف عن حقيقة ما حدث، وكأن إصابة رئيس دولة ودخوله المستشفى لا يكفي وحده لإعلان موقف مبدئي يقوم على أسس الحرص على مصلحة الدولة وسلامة مؤسساتها السيادية وقدرتها على القيام بدورها المركزي في تسيير الشأن العام وتأمينه، فضلا عن إعلان التضامن مع شعب مصاب في شخص رئيسه ورمز سيادته..

ولقد كانت مواقف النخب المعارضة صادمة ومخيبة للآمال بشكل لا يمكن تصوره؛ حيث عجزت عن السمو عن خلافها السياسي مع رئيس منتخب لتعانق آلام وآمال مئات الألوف من المواطنين الملهوفين على صحة رئيسهم المتطلعين للأخبار المطمنئة عليه.

وهكذا بدا أغلب تلك النخبة مهموما بالبحث عن خبر يثبت له أن استهداف الرئيس كان متعمدا، وأن إصابته كانت بليغة، وأنها إن لم تنه حياته؛ فلا أقل من أن تقعده عن مزاولة مهامه وتحمل أعباء مسئولياته الدستورية... خيب الله ظنهم!!

نقول ذلك؛ لأن هذه النخبة ظلت صامتة لا تنبس ببنت شفة سوى تكرار الحديث عن التشكيك في صحة الرواية الرسمية والمطالبة بتوضيح حقيقة ما جرى، وكأن أفئدتها يسكنها شيء تريد سماعه ولا تجرؤ هي على البوح به!!

ولقد ظلت هذه النخب في حيرتها المخادعة والمرتبكة إلى أن دلتها عبقرية وذكاء (وللأمانة أيضا حكمة) رئيس حزب تواصل السيد محمد جميل منصور الذي حاول يوم الأحد أن يظهر بمظهر الذي يريد تسجيل موقف أخلاقي؛ فأدلى بذلك التصريح المقتضب الذي تمنى فيه الشفاء للرئيس والعودة إلى أسرته! لتتالى بعده مواقف باقي قادة المنسقية المأخوذين بعبقرية الفصل بين صفة عزيز الشخصية وصفته الرسمية؛ فتحدثوا عنه كما لو كان مجرد مواطن عادي ورب أسرة ككل أرباب الأسرة، دون النظر إلى حقيقة كونه رئيس جمهورية منتخب من أغلبية شعبية زكتها "معارضة الرحيل المستحيل" وشهدت لها وعليها..

وعلى هذا التقى قادة منسقية المعارضة ليعلنوا في مؤتمر صحفي عن تعاطفهم مع "أسرة رئيس الدولة"..

لاحظوا جيدا: التعاطف مع أسرة الرئيس فقط، وليس معه، ولا مع الدولة التي يرأسها، ولا الشعب الذي انتخبه، ولا المصالح العمومية التي لا يطالها الحصر والتي قد تتعرض للخطر إذا طالت غيبة الرئيس التي لم تر لها المعارضة أي أثر سوى على أسرته الشخصية؛ فتكرمت بدعواتها "الصادقة" أن يعود الرئيس إلى تلك الأسرة؛ دون أن تتذكر أن هذه الأسرة قد رافقت والدها إلى فرنسا، وما كان ينبغي لها أن تتخلف عنه ولا تستطيع، أما الأسرة التي لم تستطع مرافقته، والمتلهفة إلى عودته فهي أسرتنا جميعا: موريتانيا.. بكل ما فيها ومن فيها: موالين ومعارضين، ومن بين ذلك!!

ثم لا يقبل قادة المنسقية أن يقدموا موقفهم "الإنساني" دون طلاوة سياسية لا تخلو من دلالات صادمة؛ فيصرون على وصف الرئيس بأنه "رئيس الدولة"، وليس رئيس الجمهورية" الذي انتخبه الشعب بأغلبية لا غبار عليها، وفي انتخابات لا مطعن فيها!!

إن نخبتنا المعارضة لم تستطع الوقوف عند أي سقف في تغليبها تصفية الحسابات الشخصية؛ حتى بأغلب الأساليب والصيغ الفواحة برواح الحقد والكراهية؛ فيطالعنا أحد المواقع الألكترونية الأكثر تخندقا في صف المعارضة، والأكثر حضورا وشراسة في خوض جميع معاركها الموضوعية وغير الموضوعية، ليخبرنا بأن الرئيس يتعالج في أحد أرقى المستشفيات الفرنسية، ولكي يطمئن الشعب على مستقبل رئيسه في هذه المستشفى؛ لا يتردد في إخبارنا عن أهم ما عرفت به تلك المصحة العالمية في ميدان الاستشفاء؛ فيذكر أن الرئيس ياسر عرفات رحمه الله قد تعالج فيها وتوفي أيضا فيها.. وأن الرئيس الزامبي ليفي باتريك تعالج فيها وتوفي فيها كذلك هو الآخر... قبل أن يعود الموقع ويحذف خبر وفاة الرجلين في تلك المصحة؛ ربما لأن بقية باقية من "المعارضة الناصحة" نصحته فانتصح؛ بعد أن نطح وانفضح!!

وما زال قادة منسقية المعارضة عاجزين عن تقبل الحقيقة البينة القائلة بإصابة الرئيس بإطلاق رصاص عن طريق الخطأ، وبأن حالته الصحية جيدة، وأن عودته الميمونة قريبة إن شاء الله؛ فلا يملون المطالبة بالكشف عن حقيقة حالته الصحية، والحديث عن تناقض الرواية الرسمية للحادث؛ رغم أن الجهات الرسمية لم تقدم إلا رواية واحدة، أكدتها أيضا أسرة الضابط الذي أطلق النار خطأ.. فعن أي تضارب في الروايات يتحدثون؟!!

ومع ذلك؛ فإننا نجد في هذه الواقعة قصة تروى، وحقائق يجب أن تكشف وتحكى:

1) أن لموريتانيا رئيسا لا كالرؤساء في شجاعته، ونبله، ورباطة جأشه، وصفاء سريرته.. وأن ما يحاول البعض اعتباره ثغرات أمنية لم يكن في الواقع سوى دليل ساطع عن حالة الأمن المستتبة في البلد بشكل غير مسبوق؛ وإلا كيف نفسر ما أجمع عليه الكل من أن جميع الموريتانيين يعرفون بأن الرئيس تعود على الخروج المنتظم كل أسبوع إلى ضيعته، وحتى التجول ليلا ونهارا في جميع أحياء العاصمة دون مرافقات أمنية، ودون أن يستهدفه أحد؟؟

بل كيف نفسر أن يقطع الرئيس عشرات الكيلومترات وهو مصاب في سيارته  التي لا رفيق له بها سوى صديقه المدني، وأن يتوغل داخل العاصمة حتى يدخل المستشفى العسكري دون مرافقة أمنية؛ رغم أن مكالمة هاتفية واحدة منه كانت كافية ليغص الطريق الذي يسير عليه بقوات الأمن برا وجوا، مع إغلاق جميع مداخل العاصمة حتى يصل إلى المستشفى تحت غطاء أمني لافت ومهيب..

كيف يحدث ذلك لولى شجاعة الرجل وثقته في أن الأمن الذي أنجزه في بلده هو حقيقة واقعة، وليس دعاية أو وهما يفترى؟؟

2) ما الذي يمكن استخلاصه من حرص الرئيس على عدم استنفار أمنه لحظة إصابته، وإصراره على مواصلة السير حتى المستشفى العسكري بمفرده، وترجله من السيارة وهو ينزف دما، وسيره شامخا كالطود العظيم وهو يلوح للناس بيده دون أن تظهر ملامحه أي أمارة من أمارة التعب أو الإرهاق أو الجزع.. ثم ظهوره على شاشة التلفزيون بعد ليلة كاملة من الحجز وبمجرد الانتهاء من عمليته الجراحية ليخاطب شعبه بوجه صبوح لا يحمل أي علامة للتعب ولا الغضب ولا الخوف ولا الارتباك؛ ومعلنا بعقل صاف ونبرة قاطعة أنه أصيب بالخطأ بنار أطلقتها عليه دورية تقوم بدورها وواجبها الوطني؛ في نبل عجيب يصعب تصوره ممن أصابته لطمة حصاة بالخطأ.. فما بالك بمن ينزف من إصابة رصاصات بالخطأ؛ ثم يسارع بطلب وقف جميع التحقيقات مع مستهدفيه وإخلاء سبيلهم فورا؛ في تقبل عجيب ونبيل لتحمله هو جزء من مسئولية ما حدث بعد أن نسج القدر الذي لا مرد له ملابسات عفوية فرضت أن يقع كل ما حدث تماما كما حدث.. دون إرادة من أحد، ولا تعمد من أحد، ولا تقصير من أحد.. ولكنها إرادة المولى جلت حكمته الذي يبتلي المؤمنين بالسراء والضراء، والذي قال عنه سيدنا إبراهيم عليه السلام: "إذا أحب الله عبد ابتلاه"..

3) ذلك بعض ما يستحق أن يروى من حقائق وخلاصات ما جرى؛ ليكشف لنا كيف أن مع "العسر يسرا"، وأن ما قد نراه مصيبة ربما حمل في خفاياه خيرا عميما لعل أقله:

أن يكشف الله لنا حقيقة الأمن الذي نعيشه، وشجاعة ورأفة الرجل الذي صنع ذلك الأمن، وصفاء سريرته التي علمته أن يبذل كل جهده لتأمين بلده وشعبه؛ غير ملتفت كثيرا لتأمين ذاته؛ لأن قلبه الذي لا يضمر شرا لأحد؛ جعله يتصور أن لا أحد يضمر الشر له؛ وقد كشفت حكمة الله أن الذين يضمرون له الشر من مواطنيه هم أعجز من أن يصيبوا ذبابة بسوء؛ فلا يملكون إلا الأماني العاجزة بأن تكون الرواية الرسمية متناقضة وغير صحيحة، وأن تكون صحة الرئيس (خيب الله أملهم) ليس كما يقال، وأن يكون في الأمر سرا لم يكشف بعد!!

فلندعهم وما يشتهون، ولندعوا الله صادقين مخلصين بعاجل الشفاء لرئيس الجمهورية، وبعودته العاجلة؛ ليس فقط لأسرته.. وإنما أيضا لشعبه، وبلده، ودولته، ومسئولياته الجسام، وانتصاراته في معاركه العظام..

وما ذلك على الله بعزيز، وهو وليه والقادر عليه..

16. أكتوبر 2012 - 11:12

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا