أنجعُ استراتجيات الدُّول في مواجهة جائحة كورونا / باب ولد سيد أحمد لعلي

في زمن الكورونا بات كلّ شيء مختلف حتى نمط الحياة وألوان الزهور ومجاري المياه ، فليس ثمة أمر بعد أن حلّت هذه الجائحة حسب ما وصفتها منظمة الصحة العالمية منذ برهة يستحق التفكير أكثر من التفكير فيه ، ولا عملٌ يجبُ أن يُرواد قهرا أو لضرورة أكثر من العمل في سبيل حلّه أو تخفيف وطأته أو تلقي جراح مصابيه بالألم والألم والتخويف والإحباط تارات أخرى ،  وما أصعبها جراحات تنزل من مصابين عدة رغم اختلاف أحوالهم الصحية باتت تؤرق أرقى النظم الصحية في العالم وتكسر عظمتها بأفجع الوقائع وأثقل المكابدات.

فعلا لقد أنشغل الجميع في هذه الجائحة ما بين مستسلمٍ لها عاجز عن أي شيء يُفعل ضدها ، وما بين مقاوم مقاومة يعرف أن الأضرار التي قد تصيبه بعدها ستكون مهما كانت أخف الأضرار ، وآخر يفخرُ بالذي أحرز في سبيل مكافحة هذا الفيروس كالصين مثلا التي مثلت بؤرته الأولى ومحطة انتشاره البدائية ، والتي باتت تورد أنماذج معاملاتها معه رغم ما أصابها من خسائر مادية وبشرية وهي في أتون الحرب معه ، الأمر الذي يحدو بنا نحن معشر البسطاء للتساؤل والتخمين بالرغم من كل ما أُحرز من قرارات أو إجراءات خففت من وطأته وإن لم تأتي أوكلها التام بعد ، حول أنجع السُّبل لاتخاذها والتفكير في كل ما اتخذ وقياسه بناء على وقائع قد تكون جرت ، وعلى أدوار الدولة بوصفها الجهاز التنفيذي الأشمل والأوحد على اختلاف طبيعتها لمحاربة انتشاره في المجتمعات.

هل كان علينا تطويق الحريات أكثر ؟ أم الإجراءات الاحترازية المتخذة من قبل الدولة لا يجب أن تتعارض مع حرية المواطنين في التنقل والتحرك ولو كان الأمر على حساب الجميع؟ أم أن الأمر يتطلب الحزم بقدر ما يتطلب التفهم والانفتاح ومراعاة صالح الناس؟.

في كتابه "بناء الدولة" يعرض مؤلفه فرانسيس فوكوياما الذي يعتبر" إن مهمة علم السياسة الحديث كان ولا يزال تدجين سلطة الدولة وتنظيم ممارستها في ظل حكم القانون ، وتوجيه نشاطاتها نحو أهداف تعتبر بنظر الشعوب التي تحكمها عوامل تعكس مدى وقوة الدولة وضعفها" أن ضعف المؤسسة هو السمة الأبرز لضعف الدولة وغياب تنمية محلية أنجع ، ويقدم أنماذج من الدُّول : كالدولة الشمولية التي تلغي المجتمع المحلي وتتدخل في كافة المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية وتفرض خياراتها على الأفراد، والدولة الآدونية التي تحدُّ  من تدخلها في المجالات الأخرى غير العسكرية ، بعيدا عن الخطط التنموية ومحاربة الفقر وغير ذلك  وهو أنموذج ظهر أكثر عند البريطانيين قبل الحرب العالمية الأولي لتُحتمَ ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية استبدالها بدولة أكثر مركزية تتدخل في كافة المجالات وإن بقيت ليبراليتها قائمة بشكل أو بآخر.

طبعا فوكوياما من الذين يعتبرون أن الدُّول التي ظهرت في الشرق الأوسط وإفريقيا ومعظم الدول الآسيوية مجرد دول اسمية وأنها تحاكي فقط النموذج الغربي الذي يعتبر هو المرجع الأساسي لبناء الدولة الحديثة على الرغم من اعترافه ضمنيا عن أن الدولة ذاتها ظاهرة إنسانية ظهرت أول ما ظهرت في بلاد ما بين النهرين والحضارات الآسيوية القديمة ، بنجاح بعض الدول الآسيوية في بنائها.

لكن الإشكال الذي تفرضه الظرفية الراهنة أمام هذه الجائحة هو أي النماذج الدولاتية أجدى أدواتها وأكثر نفعية في سبيل محاربته ؟ ، فنحن نعلم أننا وفي إطار بناء دول العالم الثالث على ما في مؤسساتها من علّات أن الدولة هي المسئول الأول عن محاربة مثل هذه الحالات ، وهل قطاع الصحة وحده بإرشاداته وتعاليمه الوقاية يكفي دون تدخل غيره من القطاعات الحكومية؟.

في نفس الإطار يتبين جليا من خلال الوقائع الحالية التي أفرزتها نتائج مكافحة جائحة كورونا أن الصين كدولة شمولية تلغي التعددية وتتدخل في كل المجالات الحيوية وتفرض الأشخاص لخياراتها السياسية استطاعت أن تلجم الجائحة وأن تحد منها في وقت وجيز ودون أن تبلغ المدى أن بلغته في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا إلى حد الساعة ، وقد استخدمت في ذلك كل القطاعات الحكومية إلى جانب قطاع الصحة من أمن ودفاع من أجل تطبيق القوانين والصرامة فيها وهو ما ضمن نتائج أفضل حدت من انتشاره أو ساهمت في السيطرة عليه ونقلت الفيروس إلى أوروبا وأمريكا.

نفس الشيء انتبهت إليه أمريكا في وقت متأخر وهي الأم الكبرى للبرالية الحديثة بما تحتويه من حرية وتعددية لكنها لم تستطع التحرك بالقدر الذي تحركت به الصين تماما ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية حسب مارتن ليبست دولة  مؤسساتها مصممة عن عمدٍ لإضعاف القدرة على ممارسة سلطة الدولة أو الحد منها ، يعني أن تقاسيم السُلط حد من سرعة مواجهة هذه الجائحة ذلك أن حضور الدولة وقوتها لم تكن بنفس الحجم والحضور والتواجد في الصين ، ففي الصين توجد دولة شمولية تفرض ما تحبُ دون الرجوع إلى أية سلطة معينة وخصوصا أنها تصرفت في الأزمة بمنطق الأبوية والرعاية الشاملة للمواطنين ، بينما العكس ، فقوة الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية هي قوة مؤسساتية ، وهو ما حدّ التجاوب السريع مع القضاء على الجائحة فيها إلا أن أصبحت أمريكا البؤرة الأولى للفيروس.

محليا وفي ضوء ما تقدم يبدو الأمر في غاية التعقيد ونحن إذا ما حاولنا غربلة حضور دولة في المجتمعات العربية في هذه الحالات حيث تفرض الظروف التعامل بمنطق الدولة الشمولي ولو عن طريق فرض حالة طوارئ تامة إذا تواجد ما يمكن أن يمنع حماية المجتمع قانونيا من ذلك .

وقد كان موقف السلطات الموريتانية اتجاه الفيروس منذ إعلان الحالة الأولى موفقا مثل أنجع السبل للتغلب عليه في مهده إذا ما أحس الجميع بالمسؤولية وتعاطوا إيجابا مع تعليمات السلطات ، حيث أن الأمر في مثل هذه الجائحة لا ينبغي تركه للوزارة الصحة فقط دون تدخل قوي من الدفاع والداخلية والمالية والاقتصاد للتغلب على التبعات الاقتصادية للحجر الصحي الاجتماعي والمنزلي .

إن منطق الدولة الشمولي يبقى أجدى السبل وأنجعها في هذه اللحظات خصوصا أننا نشاهد ما حل في الولايات المتحدة الأمريكية من إصابات فاقت الحد المعقول وما صاحبها من قرارات سياسية ارتجالية أوضحت عجز المؤسسات التشريعية والقضائية عن تفويض السلطة التنفيذية في الوقت المناسب من أجل القضاء عليه في مرحلته الأولى أو المتوسطة كما فعلت الصين .

ويمكن القول أن تقليص حضور الدولة وتفعيل المؤسسات وتقويتها أمرٌ قد يصاحب تقوية الاقتصاد أو تنميته أما في حالات كهذه فنحن مطالبون للمحافظة على أهم عنصر مادي وهو الكادر البشري بكافة السبل ودون الحاجة إلى الرجوع للقوانين إذا ما كان صالح تطبيقها سيصاحبه ضياع كل شيء بالمحافظة على الناس ولو بالقوة من أجل صالحهم والصالح العام ، مع الاعتراف بأن العالم قبل كورونا لن يكون العالم بعده.

حفظ الجميع ورفع عنا البلاء

1. أبريل 2020 - 18:28

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا