كيف ننتفع بالقرآن (2) / محفوظ ولد إبراهيم فال

حب القرآن ، إن الحب من أعظم الطاقات  التي من الله بها على الإنسان؛ ومن أصدق المشاعر لديه، والإنسان بفطرته يوظف طاقته في مشاعره، فإن أحب شيئا تعلق به قلبه، وطاف حوله خياله، ولهج  بذكره لسانه، وانبعثت إليه جوارحه؛ 
وإن أصدق الحب وأتقاه وأبقاه حب الله تعالى { والذين آمنوا أشد حبا لله } { يحبهم ويحبونه }  ومن حب الله تعالى حب كلامه والتلذذ بتلاوته وسماعه، كما نبه على ذلك  السلف فهذا الحسن البصري رحمه الله ورفع درجته يقول: تفقدوا الحلاوة في ثلاث عند الصلاة، وعند الذكر، وعند تلاوة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق. وقال أبو عبيد: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 
وقال أحمد بن أبي الحواري: إني لأقرأ القرآن فانظر في آية، فيحار عقلي فيها، وأعجب من حفاظ القرآن: كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلون بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن ، أما لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا ووفقوا !! .

وإن المؤمن حين يكتمل حبه لله يرزق الشوق إلى لقاء الله  تعالى، فلا يجد قبل الموت سلوانا في شيء مثلما يجده في كلام محبوبه جل وعلا، حين يعرفه بنفسه ويطوف به في معاني أسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويحدثه عن ألطاف بره، وأصناف إحسانه، ويبشره عن لقائه، 
ويسره بوعد كلامه، ورؤيته ويبشره بما يعقب ذلك اللقاء من السرور والنعيم. { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين } إن يوم لقاء الله تعالى يوم للمؤمن وليس عليه؛  يوم تزف له البشرى فيه؛ يوم حبور وسرور ... ؛ وليس يوم حزن وثبور وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه.
ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
وأخرج البخاري من حديث أنس:
 قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ : " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ". قَالَ أُبَيٌّ : آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ : " اللَّهُ سَمَّاكَ لِي ". فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.

إن أصل حب القرآن الكريم كامن في قلب كل مؤمن وأحيانا كثيرة يكون –من نسميهم– العوام أصدق حبا، وأعمق ودا، من كثير من المنتسبين للعلم والعبادة لكن يحتاج هذا الحب إلى من يتعاهده ويرعاه ويثير أشجانه ويميد أغصانه وإن تعجب فعجب حال أولئك الأعاجم الذي لا يفقهون من القرآن شيئا لكنهم إذا سمعوا القرآن أفصحت قلوبهم عن جمال الحب وجلال الهيبة فانهمرت الدموع على الخدود وشهقت النفوس حتى كادت تخترق الصدور؛ 
وكم عوض حب القلب ووجده  فصاحة اللسان ونباهة الأذهان .. 

وإن تسأل عن حب القرآن الكريم حدثتك عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي  نزل القرآن على قلبه فأشرب هواه  { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين }  فكان يشق عليه أن يفتر الوحي ويترقب نزوله بشوق عظيم وربما  قلب  وجهه في السماء  استبطاء له ويقول لجبريل مالك لا تزورنا أكثر مما تزورنا –وأعظم ما تتحف به زيارة جبريل القرآن الكريم– فينزل الله تعالى { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } 

فما نسيناك يا محمد ولا جفيناك ولا قليناك { والضحى واليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } بل الأمر ما بينه بقوله تعالى؛ { كذلك لنثبت فؤادك ورتلناه ترتيلا }
ويأتي جبريل عليه السلام فيعاجله المشتاق صلى الله عليه وسلم ولا يصبر على سكوته حبا للقرآن وإشفاقا من نسيانه فيطمئنه ربه ويضمن له جل وعلا { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } أي جمعه لك في صدرك وأن تقرأه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما 
{ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما }

وكان من فرط حبه القرآن أنه لا يكتفي بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ولا بحاله المنيف التي يصف فيها اغتباطه برضى الله عن تلاوته { ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به } ولا بمدارسة جبريل بل يزداد تعلقه بالقرآن فيطلب سماعه من غيره يأتي إلى عبد الله بن مسعود فيقول له: ياعبد الله اقرأ علي القرآن فيقول عبد الله: –مستغربا– أقرأ عليك وعليك أنزل فيقول صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري.
إنه الحب الذي لا يقضي صاحبه نهمه؛ وفي الصحيح أنه قال لأبي موسى الأشعري: لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فيقول أبو موسى –وحق له– لوعلمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا.
وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك"  تفخيما وتعظيما ولا أعظم ولا أفخم منه 
 ولم يقل له سمعتك تقرأ أو قرأت البارحة بل صور المشهد في جلالته ومهابته لو رأيت إمامك ونبيك وشفيعك محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء و إمام المرسلين يستمع قراءتك ويتنعم بمزمارك وصوتك الحسن وكان جواب أبي موسى الأشعري رضي الله " لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا " وكأنه يقول لقد فاتني أن أزيد في التحبير حتى يزداد المحب في التنعيم ..
وقد زرع النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه هذا الحب
عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ ؟ ". فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ ".

ولسان حال فتى الأنصاري هذا ينشد قول ابن الأحنف:
وَحَدَّثتَني يا سَعدُ عَنها فَزِدتَني
جُنوناً فَزِدني مِن حَديثِكَ يا سَعدُ
وَما زِلتُ في حُبّي ظُلَيمَةَ صادِقاً
أَهيمُ بِها ما فَوقَ وَجدي بِها وَجدُ
هَواها هَوىً لَم يَعلَمِ القَلبُ غَيرَهُ
فَلَيسَ لَهُ قَبلٌ وَلَيسَ لَهُ بَعدُ

لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به
ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها
روح القدوم فتحيا عند ميعاد

ولله ولكلامه المثل الأعلى والأجل

وروى البخاري في صحيح أن عبد الله بن مسعود قال: في بني إسرائيل [سورة الاسراء] والكهف ومريم إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي. (والتلاد: ما كان قديما من المال، يريد أنهن من أول ما تعلمه وحفظه من القرآن.) 

وهو بذلك ينبه على تعلقه بهن وحبه لهذه السور التي عاش في رياضها ونهل من حياضها فالعلاقة معها قديمة والحب لها كامن في النفوس راسخ في الوجدان ...

وكان لعباد بن بشير الأنصاري رصي الله عنه شأن  مع القرآن حبا وتعلقا

روى جابر رضي الله عنه في سنن أبي داود (1\90) 

" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا فقال من رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال كونا بفم الشعب قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي وأتى الرجل _ يقصد المشرك  _فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه حتى رماه بثلاثة اسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم (وفي رواية:الدماء)قال سبحان الله ألا نبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها " 

 وفي رواية " كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي من أن أقطعها  "

فلقد كاد عباد رضي عنه يموت وهو لا يريد أن يقطع تلاوته القرآن وأي حلاوة كان تنسيه وقع السهام وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يتهجد فسمع رجلا يقرأ فقال لعائشة رضي الله عنها من هذا ؟ فقالت عباد بن بشير فقال النبي صلى الله عليه وسلم  ؛ " غفر الله لعباد "

اللهم أعطنا ولا تحرمنا وهب لنا وأوسع لنا

 

يتواصل إن شاء الله تعالى وفي الحلقات القادمة نتناول أسباب هذا الحب ،،،،،

1. مايو 2020 - 12:48

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا