في ظلال التراويح (8) / محمد المصطفى الولي

إن من منن الله تعالى علينا أن وفقنا لمتابعة هذه الوقفات التي وصلنا في ظلال وردها التراويحي الليلة لإحدى عتاق عبد الله بن مسعود الأول ، وهي سورة الأنبياء البالغ عدد آيها مائة واثنتا عشرة آية من القرءان المكي ، قال بن مسعود : الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول ، وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرءان الكريم كالمال التلاد .

ومما يروى في هذا المقام أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر آخر في يوم نزول هذه السورة ، فقال الذي كان يبني الجدار : ماذا نزل اليوم من القرءان ؟ فقال الآخر : نزل : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) فنفض يده من البنيان ، وقال : والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب . لأنه يخاف من أن يغفل عن القمة والألوهية والتكاليف ، أو أن يدخل في جملة الغافلين مفتعلي الإعراض عما يأتيهم من ذكر من ربهم .

وتعالج السورة الموضع الرئيسي الذي هو العقيدة على غرار سابقاتها من السور المكية ولكن في ميادينه الكبيرة ، وذلك بعرض نواميس الكون الذي تعد العقيدة جزء من بنائه لقيامها على رافدي الجد و الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض في جولة للناس بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم ....بين مجالي الكون الكبرى : السماء والأرض ...الرواسي والفجاج .. الليل والنهار والشمس والقمر ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) .  وإلى وحدة النواميس التي تحكم هذا الكون وتصرفاته وأنه لا شريك لمسيره في الخلق تشير الآيات ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) .

وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد ، هو استجابة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لا هين وقد واجهت السورة قلوبهم بمطلع قوي الضربات ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ....) . وفي شوط آخر من أشواط السورة يبرز توجيه المدارك إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وإلى وحدة مصدر الحياة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : ( كل نفس ذائقة الموت ) . وإلى المصير الذي إليه ينتهون (وإلينا راجعون ) . وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ...) .

وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض . فالسنة لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين ، وينجي الله الرسل والمؤمنين تصديقا لوعده : ( ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) . وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) .

ثم يستعرض السياق صورا من حياة الرسل والدعوات وأمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا ، يطيل بعض الشيء عند حلقة من قصة إبراهيم عليه السلام وعند الإشارة إلى داوود وسليمان اللذان حكما في خصومة تلك الأرض التي نفشت فيها غنم القوم فاحتكم صاحبي الأرض لداوود عليه السلام ، وتكييف خصومة الطرفين أن : رجلا عنده زرع ، وآخر عنده غنم ، فالغنم شردت في غفلة من صاحبها فأكلت الزرع ، فاشتكى صاحب الزرع صاحب الغنم لداوود ، فحكم في القضية بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ، لأن سيدنا داوود ربما وجد أن الزرع الذي أتلفته الغنم يساوي ثمنها . فلما خرج الخصمان لقيهما سليمان عليه السلام ، ويذكر بعض أهل العلم أنه كان يومها في الحادية عشر من عمره ، وعرف منهما حكم أبيه في القضية ، فقال : ( غير هذا أرفق بالفريقين ) فسمى حكم أبيه رفقا ولم يتهمه بالجور لكن أوضح أن عنده ما هو أرفق . فلما بلغت مقالته لأبيه سأله : ما الأرفق بالفريقين ؟؟ قال سليمان : نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها ، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يصلحها حتى تعود كما كانت ، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه وصاحب الزرع زرعه . وكانت كواليس إصدار الحكم تتم في مراقبة من يعلم السر وأخفى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) .

ويقصر السياق بعد توقف مع بعض تفاصيل القصص السابقة عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكرياء الذي نادى ربه وقد بلغ من الكبر عتيا وامرأته عاقر لا تلد ، أن لا يذره فردا وأن يرزقه ولدا ( رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) . وتقدم قوله ( رب إني وهن العظم مني واشتغل الرأس شيبا ) . فلما بشره الله بالولد تعجب ، لأنه نظر إلى معطيات الأسباب . ويحيى وعيسى عليهم السلام . كما يتضمن السياق في السورة بعض مشاهد القيامة من الساعة وأشراطها ، وقانون العمل والجزاء ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ) . لأن العمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تنبت وجوده وحيويته في الضمير الذي سنرى بعد عرض هذا المقطع من السورة لمشاهد القيامة وكيف أن الشمس ستدنوا من الرؤوس ويشتد بالناس الكرب ، إلا اللذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ذلك أنهم صنعوا بسلوكهم القويم مظلة أمان في الكون وازنوا بها المجتمع المسلم في الحياة الدنيا ، فأظلهم الله في الآخرة . كما جاء في الحديث الشريف . هنا ندرك أن أهمية بلاغ ما جاء في القرءان الكريم ليتلقوا مراد الله فيه بالتنفيذ أمرا ونهيا قوم ( إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ) .

بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، وتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وضاعف لنا ولكم الأجر . .

17. مايو 2020 - 10:37

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا