أي تصميم للطرق هذا! / محمدو ولد البخاري عابدين    

سنة 2012 أنشأت الدولة " المؤسسة الوطنية للأشغال المنجزة بالمواد المحلية " بغية تثمين واستغلال مقدرات البلد من الحجارة بتوسيع استخدامها في عمليات رصف وتبليط الشوارع والساحات، وكان أول ما بدأت به تلك الشركة أعمالها رصف جنبات شارع القوات المسلحة بدء بملتقى طرق المطار القديم، وانتهاء بملتقى طرق الإتحادية شمالا، ثم البدء في إنجاز طرق عرضية في مقاطعة لكصر باستخدام الحجارة، وقد وصفت في مقال حينها عمليات الرصف والتبليط تلك بعمليات " التزبال " الذي هو مصطلح يُستعان به في وصف كل عمل غير مُجتهد عليه، أو آخر مُنجز من طرف غير المختصين.. وفعلا كان الوصف ينطبق على تلك العملية التي أفرغها إنعدام الخبرة وزبونية ومحسوبية وزارة التجهيز والنقل من قيمتها وأهدافها، من خلال تجزئة مقاطع هذه الطرق والأرصفة وتوزيعها على عشرات المقاولين ممن لا هم لهم سوي " تزبال " تلك الحجارة والإسنمت بطريقة رديئة ومغشوشة وبلا خبرة ولا مهنية ولا ذوق، وإنهائها وغسل إيديهم منها بسرعة والتقدم لاستلام مستحقاتهم التي لم يستحقوها أبدا!

وقد أوقف الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز تلك العملية عندما تبين ارتفاع تكلفة الكيلومتر من هذه الطرق المبلطة بالحجارة بنفخ العروض والفواتير، وهي المُراد منها أصلا انخفاض التكلفة مقارنة بالإسفلت، ورداءة مواصفاتها بسبب الغش وانعدام الخبرة، وهي المراد منها الجانب الجمالي مع القوة والمتانة ومقاومة الإحتكاك والمؤثرات الخارجية، وذلك بعد إنجاز طريقين من هذه المقاطع، ليتوقف العمل في الطريق الثالث منها مُقابل شركة " كوديمكس " للسيارات، وها هما الطريقان اللذان اكتملا من هذه المقاطع، والجزء الذي اكتمل من المقطع الثالت اليوم غير صالحين للإستخدام، ذلك أن هذه الحجارة تم رصها بطريقة غبية وغريبة، فبدل لصقها فيما بينها بالإسمنت تم رصها وسد الفراغات فيما بينها باستخدام الحصى الصغير ( gravier ) ليكون أي حادث بسيط ينتج عنه اقتلاع حجر سيليه الحجر الموالي ثم الموالي ك " الدومينو " إلى أن يصبح الطريق كومة من الحجارة كما جاءت من مقالعها أول مرة ( الصورة 1 ) مُعرقلة حركة السيارات وهي التي كان الهدف منها تسهيلها، هذا على علاوة على عدم التسوية والدمج ( compactage ) الكافيين للطبقات الأساسية للتربة قبل رص الحجارة، مما جعل المنخفضات والمرتفعات تظهر عليها بسرعة بفعل حركة الشاحنات الثقيلة، كما توقف أيضا العمل في رصف شارع الأمل باتجاه توجونين بفعل " التغاشش " بين الوزارة ومقاوليها!

وقفنا في عدة عواصم على ساحات وطرقات منجزة بالحجارة، في بيروت وتونس والجزائر.. وشاهدنا صورا ومناظر لها في عواصم أوروبية يقولون لك إنها منذ الحرب العالمية الثانية أو ما قبل ذلك بكثير وهي على حالها، ولا تشعر وأنت في سيارة تسير علي هذه الشوارع بفرق بينها والطرق الإسفلتية، بخلاف التي عندنا اليوم والتي تشعر، وأنت في سيارة تسير عليها، وكأنك تستغل عربة حمير..! كما وقفنا كذلك على طرقات وساحات مبلطة بالحجارة في العاصمة الكابفيردية " برايا " بشكل بديع من الواضح أن وراء إنجازه خبرة كبيرة وذوقا رفيعا، متانة وتناسقا واستواء.. ومن الواضح أيضا أنها غير مُنجزة بعقلية توفير فرص العمل و" تشجيع المقاولات " التي ننتهجها والتي خربت علينا الكثير، وإنما هي مُنجزة بعقلية أو هدف الإستدامة وخلق الجمال..

اليوم يتم العمل في إنجاز طرق وأرصفة باستخدام هذه الحجارة في مقاطعة تيارت لتوفير فرص للتشغيل في إطار برنامج رئيس الجمهورية " أولوياتي " وبنفس العقلية، ونفس التقنية، ونفس جحافل المقاولين، ونفس غياب الخبرة، ونفس انعدام الذوق.. ولكن دعونا من ذلك كله،  ففي تصميم هذه الطرق اليوم مشكلة أخرى أكبر من أختها أو أخواتها، ذلك أن الطرق هذه المرة تشق أحياء سكنية كل ثلاثة أو أربعة مساكن منها يمتلك أصحابها سيارة أو إثنتين أحيانا، ومن لا يمتلك منهم سيارة يزوره أقارب وأصدقاء يمتلكون سيارات، ولم يُراعى هذا الجانب في رصف وتبليط هذه الطرق، فالشوارع التي يتم تبليطها اليوم هي في الأصل بعرض 18 مترا، أخذت الأرصفة منها 12 مترا بواقع 6 أمتار في كل جانب، وبقيت 6 أمتار للطريق دون ترك مواقف لسيارات الأحياء التي لن يتبقى لها من خيار، بعد انتهاء هذه الطرق سوى التوقف على الطريق نفسه، وتصوروا معنا طريقا بعرض ستة أو سبعة أمتار ستتخذ السيارات جوانبه للتوقف كم سيتبقى منه للمرور! فلا تجد على طول هذه الشوارع من مواقف للسيارات سوى إثنين أو ثلاثة وبشكل متباعد يبدوا أن أصحاب البيوت المقابلة لها هم من " تدخلوا " لدى الجهات المنفذه  لتترك لهم مواقف للسيارات أمام بيوتهم! والواضح أن القائمين على تبليط ورصف هذه الطرق يعملون بنفس تصور وعقلية حارس آلياتهم الذي مررت عليه مساء، والعمل متوقف، وسألته أين سيُوقف الناس سياراتهم؟ فقال لي ( ألا الل أبغاو )! والصورة رقم 2 تصف لكم ماذا سيكون عليه الحال بعد انتهاء هذه الطرق وسيارات الأحياء مُحاصرة متكدسة على جوانبها!

فكان الأولى والأكثر خدمة لسكان هذه الأحياء وتسهيلا للحركة والمرور في أحيائهم، إقامة أرصفة بعرض ثلاثة أمتار لكل جانب من الشارع كافية لاستخدام المشاة، وهو العرض المتعارف عليه للأرصفة في الشوارع متوسطة العرض، لتبقى من عرض الشارع 12 مترا يتم تبليطها كلها بالحجارة تكون 6 أمتار منها لمرور وتعاقب السيارات، و6 أمتار كمواقف لها. خلقت هذه الطرق بهذا التصميم أيضا مشكلة أخرى هي أنها تشق أحياء لم يستقر العمران فيها على شكله النهائي بعد، ولا زال السكان من حين لآخر يهدمون بيوتهم ويبنونها من جديد، مما سيخرب الأرصفة المُقامة ويُراكم عليها الأتربة وبقايا مواد البناء، كما أن بعض المنازل على طول هذه الشوارع مرتفع عن مستوى الشارع، وبعضها منخفض عنه، مما جعل مداخل بعض البيوت على نفس مستوى الرصيف وبعضها الآخر أسفل منه وبقي في حفرة!

فعموما وعمليا ما كان من الضروري أصلا رصف شوارع في أحياء شعبية لا زال العمران فيها يتغير ويتحول، وكان يكفي تعبيد هذه الشوارع بالإسفلت لتسهيل الحركة فيها، وتأجيل عمليات الرصف إلى أن يستقر العمران فيها على وضعه النهائي، ويُستكمل إنجاز كل الخدمات التحت أرضية من توصيلات مياه وكهرباء واتصالات وشبكات الصرف الصحي وربطها بالمجاري المنزلية.. هذا علاوة على أن التبليط بالحجارة مُخصص ومُتعارف عليه عالميا للساحات العمومية والأزقة والممرات، وليس للشوارع الكبيرة المستخدمة بكثافة من طرف العربات والآليات الثقيلة قوية الإحتكاك، وللمتطلبات الفنية العالية للتسوية الدقيقة للشوارع المبلطة بالحجارة بخلاف الإسفلت سهل التسوية، أيضا لا معنى لرصف شوارع في أحياء شعبية في غياب وسائل وآليات لتنظيفها يوميا من تراكم الأتربة، وفي غياب مصارف لصرف مياه الأمطار ومياه الغسيل الذي تعود الناس سكبها على الطرقات والتي كانت حواف الشوارع الترابية تمتصها على الأقل، والآن تم حجب التربة بهذه الأرصفة لتبقى المياه والغسيل يتماوجان هما والأتربة على ظهر الطريق.

أيضا كان الأولى بالتبليط تلك الشوارع الطولية التي تشق المقاطعة من الجنوب إلى الشمال لتخفيف الضغط والزحمة على الشوارع الطولية الأخرى المزدحمة بالأسواق والمدارس والورشات، بدل تبليط ورصف شوارع عرضية ثانوية أقل استخداما في حركة المرور.. ثم أين هو الجمال والتزيين بالحجارة الذي يتحدثون عنه في رصف شارع مكوَّن الواجهات من ورشة ميكانيكا وسخة، وحظيرة أغنام، ومربض حمير، ومكب قمامة، وبيت خرب، وحائط مهجور، ومحطة غسيل مياه غسيلها " ينابيع " تجري في كل اتجاه! الجمال حساس جدا لمجاورة نقيضه.. ولدينا في قلب عاصمتنا حيث العمران أكثر تطورا نسبيا، والعناية بالنظافة والصيانة أفضل نسبيا أيضا، والصرف الصحي أشمل، لدينا في هذه المنطقة من العاصمة من الأزقة والممرات والساحات التي لا تزال إلى اليوم متربة غير مبلطة ما هو أولى بالتبليط والتزيين بهذه الحجارة من شوارع في أحياء متواضعة العمران، مهملة النظافة، منعدمة شبكات الصرف.   

إذا كان لابد لنا من " إقحام " جانب التشغيل في أعمال فنية تتطلب المهارة والمهنية، فكان الأولى أن نُكون ونُدرب العاطلين أولا على هذه المهن مهما تطلب تكوينهم من وقت، وحتى لو تطلب ذلك أيضا الاستعانة بالخبرة الأجنبية العريقة في هذه المجالات، وذلك لتحقيق أكثر من هدف، نُكسبهم خبرة ومهارات لهم ولمستقبلهم، ونُشغلهم، ونحصل على أعمال باقية لنا سنوات أو عقود، بدل أشغال رديئة سنضطر للعودة لترقيعها أو إنشائها من جديد.. والخلاصة أن لا خبرة لدينا اليوم في ما نخوض فيه من استخدام للحجارة في الرصف والبليط، لا من الناحية الفنية ولا حتى الجمالية مهما تشدق من يدعون تلك الخبرات.

 

5. يونيو 2020 - 20:24

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا