لجنة التحقيق إلى أين؟ / مختار زيدان

حين وصل السيد أوباما للحكم وجد معضلتين اقتصادية اجتماعية –اختلالات الضمان الصحي- وتلطخ أيدي الحكومة السابقة بقضايا تعذيب ممنهج في عدة سجون حول العالم كأبو غريب وكوانتانامو.
فور توليه السلطة عام 2009 حظر الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون استخدام ماكان يعرف بأساليب الاستجواب المعزز ـ (enhanced interrogation techniques) والتي ليست سوى تعبير منمق عن أساليب التعذيب البدني والنفسي التي مارستها وكالات الأمن القومي الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في عهد جورج بوش.

رأت إدارة السيد أوباما أن أقصى طاقته حينها، التبرؤ من تبني تلك المناهج المشينة والمدانة دوليا. لكن لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ قامت بتحقيق استمر خمس سنوات، وبلغ عدد صفحاته 6000 صفحة، وجد السيد أوباما نفسه في مأزق جديد، فلم تسمح إدارته بنشر التقرير بل رفعت السرية فقط عن ملخصه الذي بلغ 500 صفحة.

 كانت هوامش تحركه ضعيفة: إن معاقبة المسؤولين السابقين الجمهوريين ستحسب مخالفة لتعهدات الرئيس في حملته بتجنب التعصب الحزبي، وستنعكس بشكل سلبي على عمله في ملف التأمين الصحي، بل وقد تجر مستقبلا لسلسلة محاسبات مصطنعة على أسس حزبية ضيقة.

ونشر التقرير كاملا كان سيفضح أمريكا القوة العظمى التي كانت إلى عهد قريب تفخر بقيمها الإنسانية المعيارية، بل أكثر من ذلك قدر يجر لتصاعد أعمال عدائية ضدها مما سيجر لردود أفعال هو في غنى عنها.

قال الرئيس الأمريكي حينها: "عندما شاركنا في بعض أساليب الاستجواب المعززة، وهي تقنيات أعتبرها، وكل شخص نزيه، بمثابة تعذيب..  فإننا بذلك تجاوزنا الحدود ونحن كبلد نتحمل مسؤولية ذلك بحيث نأمل عدم تكراره مستقبلا، أن هذه الأساليب القاسية لا تتعارض مع قيمنا كأمة فحسب، ولكنها أيضا لا تخدم جهودنا الأوسع نطاقا في مكافحة الإرهاب أو مصالح أمننا القومي. وسبب دعمي لرفع السرية عن تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، إدراكي أنه لا توجد هناك دولة تتصف بالكمال، ولكن إحدى نقاط القوة التي تجعل من أميركا دولة استثنائية هو استعدادنا لمواجهة ماضينا علنا، ومواجهة أوجه القصور لدينا، وإجراء التغييرات والقيام بذلك على نحو أفضل. بدلا من البحث عن سبب آخر لمعاودة المعركة بحجج قديمة، يحدوني الأمل في أن تقرير اليوم يمكن أن يساعدنا على التخلي عن هذه الأساليب ووضعها في المكان اللائق بها – أن تصبح من الماضي.

سنقتصر هنا على الصورة الجميلة لمقاربة السيد أوباما، ولن نتعرض لإعادة فتح سجن كوانتنامو في عهد الرئيس الحالي لنتفرغ للإجابة على السؤال الذي لا شك بدأ يتصاعد لهيبه في أذهان بعضكم: ما علاقة كل هذا بموريتانيا وبوضعها الحالي؟

حسنا لنعد أيضا لعهد الرئيس السابق ولد عبد العزيز، ندرك جميعا أن كل حكومة تصل للحكم – انقلابية كانت أو منتخبة- تأتي معها برصيد من المصداقية السياسية ستسعى لتعزيزه بغية استخدامه في دعم تنفيذ سياساتها، ويتوقف وحش الفساد تلقائيا إلى أن يعيد تشكيل نفسه من رماده.

كانت رصيد الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز، مستمدا من اعترافه بوجود الفساد في جسم الدولة أو النظام، وهو أمر طالما أنكره سلفه الرئيس الأسبق ولد الطايع؛ ولعل نفاد مصداقية نظام ولد الطايع عموما كان أيضا عاملا مهما في إضفاء مصداقية على أية حالة سياسية جديدة، ولسنا هنا في معرض الحديث عما حصل في فترة الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز، ولكن حين وصل خلفه الرئيس الحالي للسلطة وجد معضلتين أساسيتين: نفاد رصيد المصداقية لدى فريقه السياسي، والمعضلة الاقتصادية التي باتت أكثر إلحاحا وحاجة لعمل حقيقي يحرك من سواكن الاقتصاد ضعيف البنية.

فور وصوله للسلطة قرر الرئيس السيد محمد ولد الشيخ محمد أحمد الغزواني نشر تقارير محكمة الحسابات، وانعقدت لجنة تحقيق برلمانية من جميع ألوان الطيف السياسي، وهو أمر غير مسبوق وضروري لتزويد الحكومة الجديدة برصيد مصداقية دولي ومحلي.

فالإشكالية التي تطرح نفسها ومشتقاتها، وتشكل هاجسا لدى البعض وحلما لدى آخرين، هي: ما مدى جدية لجنة التحقيق البرلمانية؟ أو ما هو مصير وتبعات تحقيقها؟ بعبارة أوضح هل سيجد الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز -أو غيره من المسؤولين الساميين- نفسه عالقا كمتهم في محاكمات بناء على تقارير اللجنة التي ستصدر قريبا أو تقارير محكمة الحسابات؟

هنا تتحتم العودة للربط بين مقدمة الوضعية السياسية التي واجهها السيد أوباما حين انتخابه وبين ما يحصل لدينا، إن خيارات السياسيين وصناع القرارات تكون أحيانا محدودة كلعبة الشطرنج ، ويكون هامشها المتاح ضيقا للمناورات السياسية.
في نظري إن إجراء محاكمات في جو من ضعف المصداقية الموروث لدى الفريق الحاكم سيكون صعبا وبلا نهاية لأنه كلعبة شد الحبل.
ولا يعني ذلك أن إقالة المشمولين بتلك الملفات لن تكون واردة، فلا أتوقع أن يطول بقاء مسؤولين في مناصب سامية، إذا أشارت اللجنة لتورطهم المحتمل في ملفات فساد، ولكن من التفاؤل المفرط توقع انعقاد محكمة العدل السامية كنتيجة لصدور تحقيق لجنة التحقيق البرلمانية.
ومع ذلك لا ينكر أي متابع حذق الوجه الإيجابي في الأمر، وهو أن مجرد إجراء التحقيق هو إرساء لحلقة ظلت مفقودة في نظام حكمنا الديمقراطي الفتي، قاعدة المحاسبة المحايدة والتي توفر أدلة مثبتة تنزع غطاء التجاذبات السياسية عن المفسدين وتعريهم أمام القضاء، كإجراء أولي يمنعهم من إعادة الكرة هم أنفسهم – لاحتراق قيمتهم سياسيا- وتمنع غيرهم من اتباع نهجهم لأن عواقبه باتت على الأقل مكشوفة وبات مجازفة غير مضمونة العواقب.

بعد نشر خلاصة تقرير اللجنة البرلمانية يكون صانع القرار الموريتاني قد بعث رسالة لجميع اللاعبين في المشهد السياسي أن قواعد اللعبة تغيرت، فخطب السياسيين الإنشائية لم تعد تكفي لإدانة أو تبرئة أي طرف، بل أصبح الحديث عن الفساد إخباريا مدعما بتقارير موثقة، هذه بحد ذاتها قفزة كبيرة في سبيل التنمية، وخدمة للديمقراطية لا يعرف قيمتها إلا من ظل يعارض أنظمة مستبدة طيلة عقود دون امتلاكه أي دليل معتبر حول فسادها نتيجة التواء أساليب الفساد وإحاطتها بالكتمان والإنكار من الجهات الوحيدة المطلعة على حقيقة ما يجري وهي الدولة وصناع القرار.

ولعلنا على كل حال لن نعدم فائدة من إجراء التحقيق ونشر نتائجه، حتى وإن لم نصل لذروة أحلامنا الديمقراطية بانعقاد محكمة العدل السامية، لكننا سنجني فوائد جمة لا تقدر بثمن:

إن الدولة لم تعد مشلولة بالخوف من تبعات نشر التحقيقات والاعتراف بالأخطاء

لم تعد هناك حصانة ضمنية –تشمل نفي الوقائع بتاتا- تضفي صفة ملائكية على أساس الولاء السياسي- قد تكون مواليا حد النخاع ولكن حين تسرق ستتبرأ منك الحكومة والحزب الحاكم.

سيترسخ الوعي لدى صناع القرار أن الدولة أكبر من جميع أبنائها، حتى من حكومتها التي تمارس الحكم من مواقع مختلفة

قد تفتح تحقيقات -ذات مصداقية- في قضايا التعذيب والقتل التي تعرضت لها بعض أفراد المجتمع في لحظات مظلمة من تاريخنا، أو على الأقل تنشر التقارير الحقيقية التي ظلت حبيسة أدراج قيادات الأركان.

سيتعين على كل فريق حاكم مستقبلا أن يكون أكثر حزما وشفافية تفاديا لمطبات التحقيق المتوقعة.

لن تكون لجان التحقيق كافية ولن تكون لتقاريرها معنى مستقبلا إذا لم تأخذ الملفات لمحكمة العدل السامية، بمعنى آخر هذه خطوة وتبقى الخطوة المتوقعة الموالية هي المحاكمات.

ولن أفوت الفرصة من إطلالتي هنا للدعوة لتفعيل أدوار أجهزة الرقابة التي يشكل تحييدها إداريا خطوة أولى نحو الفساد، فلقد أكل الفساد بجميع أشكاله من عمر أمتنا ما يكفي، وأصبح من الملح معاملة المسؤولين الساميين بما تقتضيه مسؤولياتهم من محاسبة ومتابعة تفاديا لتضييع جهود الإصلاح وهدر التوجهات العامة المحفزة على الإصلاح، والتي نزعم أن انتخاب رئيس الجمهورية الحالي السيد محمد ولد الشيخ محمد أحمد الغزواني وفر أجواءها.
فكل من يسرق الوقت ويضيع الجهد، فهو ممارس لشكل من أشكال الفساد الإداري وتنبغي متابعته من أجهزة الرقابة في قطاعه، حتى لا تستشري روح الفساد المالي والإداري اللعينة مرة أخرى.

 

 

8. يوليو 2020 - 23:39

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا