دولة المتملقون المتزلفون المنافقون المداهنون / د.محمدعالي الهاشمي

بالرغم من أن الكثير منا قد يجاهر طوال يومه في المجالس العامة بكرهه النفاق والمنافقين، مستحقراً مَن كانوا منهم، ومَن هو في عِدادهم، ويذم أهل المداهنة والمراوغة والمراءات في العلن، و قد سبقنا الفيلسوف الصيني كونفوشيوس منذ قرون من الزمان في الاشمئزاز من هذه الآفة الاجتماعية عبر قوله: "إن الإنسان الذي يقول كلاماً مزيناً ومنمقاً كاذب، ويتظاهر بمظهر ريائي ليجاري رغبات الناس، ليبدي تقربه منهم لغايات مصلحية صرفة، فذلك الإنسان قلما يكون لديه مبادئ أخلاقية"، وذلك بما أن المزاودة أو المحاباة لا تكون إلّا مع أهل الباطل، لأن أهل الحق لا يحتاجون إليها أصلاً، إلاّ أن نفس الذي كان ينزل قدحاً بالمرائين تراه عند خُلصائه وفي خلواته مع من هم من عترته يبوح في حضرتهم بخلاف ما يجاهر به بين الناس عن نفس العلة، فقد يقول لهم:صراحةً لا يفلح في مجتمعنا إلاّ مَن كان من أهل الدجل والتملق ومجيداً ارتداء الأقنعة.

تمتع العلامة ابن خلدون ببصيرة نافذة مكنته من ملاحظة أحوال الجماعات المكونة للمجتمع، طبقات وشرائح، وقد ضمن كثيراً من ملاحظاته في مقدمته الشهيرة. ومن نافلة القول أن كتابات ابن خلدون ونظرياته فيما يتعلق بالدولة والنظام السياسي إنما تستبطن شكل الدولة السائد في زمنه. وهي دولة استبدادية اتصفت بصفة شاعت في أوساط المفكرين السياسيبن، وهي دولة التغلب أو الغلبة.

ومن أهم ملامح الدولة الاستبدادية، والنظام السياسي الاستبدادي، فيما وصفه ابن خلدون يأتي الفصلان الخامس والسادس برؤى عميقة وظريفة في آن معاً. ومن يقرأهما اليوم يرى مدى انطباقهما على الدولة والنظام السياسي في الجمهورية الاسلاميه الموريتانيه في القرن الواحد والعشرين، على الرغم من بعد الشقة المكانية والزمانية مع مكان وزمان ابن خلدون.

ويقسم ابن خلدون بطانة الحاكم إلى فئتين, الأولون وهم ناشئة الدولة ويعني بهم أولي السابقة في نصرة الحاكم وأولي الفضل في إيصاله إلى السلطة. أما الأخرى فهي فئة المصطنعين . يقول ابن خلدون : "ولقد يقع في الدول اضرب في المراتب من أهل هذا الخلق, ويرتفع فيها كثير من السفلة, وينزل كثير من العلية بسبب ذلك. وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء, انفرد منها منبت الملك (أبناء الحاكم وأقرباؤه) بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك. وانما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك، وتحت يد السلطان, وكأنهم خول له (عبيد)".

وعندما يصف ابن خلدون وصول المتملقين من فئة المصطنعين الى المراكز العليا, تكاد ترتسم أمامك صور ذوي الجاه في بلادنا، من بطانة الرئيس، ووزراء ونواب حزبه الحاكم، بصورة تثير الإعجاب من جهة, والضحك من جهة أخرى, وخاصة عندما يقول: " فتجد كثيرا من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه, ويتزلف اليه بوجوه خدمته وتبرير أخطائه , ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه, حتى يرسخ قدمه معهم, وينظمه السلطان في جملته, فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة. "

ويضيف قائلا :" ويميل (أي السلطان) إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم و لا يذهبون إلى دالة ولا ترفع, انما دأبهم الخضوع له, والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه. فيتسع جاههم, وتعلو منازلهم, وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر, بما يحصل لهم من قبل السلطان, والمكانة عنده. ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم، لا يزيدهم ذلك إلا بعدا من السلطان..... إلى أن تنقرض الدولة."

التملُّق لونٌ من التودُّد والمداهنة والمخادعة لأصحاب السلطة القائمة، وبالوقت نفسه يكشف افتعال ذلك وصولاً إلي مآرب أخرى. ولهذا يشكل مجسَّاً لردود الأفعال عليه والاستجابة لنتائجه في حركة الواقع، أي أنَّه قد يعدُّ سلوكاً فردياً لكنه يختبر أبنية الدولة وسياساتها داخل نطاقها الكلي. ولا سيما أننا بسياق سياسي  قائم على علاقات القرابة  والقبائل والعائلات ولقد أحدث هذا فوضى المجال التداولي العام.

 إنَّ آثار التملُّق في المجال العام ظاهرة موريتانيه شملت السياسة والإدارة والاعلام والثقافة والتعليم... إنْ لم تزدد اتساعاً.

القضية على درجة من الأهمية، فلا يتم تنوير حقيقي دونما نقد العقليات السائدة التي جعلت التملق درباً لتسلق الحياة العامة. أي تصفية التصورات والطرائق الحياتية التي خيمت على الفكر طوال التاريخ السياسي الموريتاني القريب . واستطاعت تكبيله وتحجم فرص الإبداع والتفكير الحر أمام أفراده. ويبدو التملُّق هاهنا معياراً لفشل السياسات وانتشار الجهل وضياع المعايير وقيم العمل ونهب الرأسماليات الرمزية من ابداع وفنون وآداب واتجاهات فكرية. لأن المتملِّق يأخذ موقعاً لا يستحقه، وفوق ذلك يزيح هؤلاء الأجدر بهذا الموقع. والأخطر أنه يدمر الحقوق الإنسانية ومفاهيمها، حين تخل أعمالُّه بتكافؤ الفرص وعوائدها على الإنسان والمجتمع.

 

يجب أن نسأل: كيف نفهم دور التملق- ثقافة وفعلاً- في انتشار جماعات المصالح؟ ألم تهدد سيولة المتملقين الوحده الوطنيه والانسجام الاجتماعي ؟

 

من جانبٍ آخر، عندما يأتي التملُّق بناءً حياتياً أشبه بالحاجات الأولية( له أعراضه – أساليبه - أشكاله الخطابية – مراوغاته - علاماته الجسدية والحركية)، فماذا عن نظام المجتمع ككل؟ إن التملق سياسة الضعفاء لبلوغ غايات ومنافع خاصة. بالمقابل يتقيأ ما في جوفه من ترويج لعلاقات الأفراد بالسلطة طالما كانت مجديةً أمام طموحاتهم. كما لن يُفلت الحاكم المستبد أيَّ تملُّقٍ دون زيادة هيمنته وتقوية قبضته من الدولة. إنَّ تملقاً بمعناه السابق لا يتم بوجه واحدٍ، هو دوماً وجهان يغذيان بعضهما البعض( ذهاباً وإياباً)!!

 

وعليه يتأسس نظام سياسي يدجن فئات المجتمع ويُخضِع المواطنين بالدوران في شراكه المنصوبة. لأن ثمة تبادلاً للمنافع خلال المناطق الرمادية المظلمة بين (المتملقين) والسلطة. وسيدل مصطلح دولة المتملَّق أنَّ شخصاً ما يحظى بفرص العيش الرغد والعلاقات النافذة. وكأنَّه يمتلك ما يستحيل امتلاكه من خدمات ومكانةٍ، بل تنحاز إليه الدولة الفاشلة. لأنَّ المتملِّق امتدادها الفاشل الذي يشعر الاخرين بكونه مهماً ولا غنى عنه.

 

في هذا الباب هناك معادلات شبه رياضية ثقافية:

 

- تملق + نفاق + حيل وألاعيب = مكانة وحظوة ( حركة صاعدة ).

 

- تملق + مصالح + قرب أو بعد = علاقات السلطة ( حركة هابطة ).

 

- تملق + ضياع الكفاءة والمعايير + دجل السلطة = ثقافة التملق( حركة أفقية ).

 

- رئيس متملَّق + تبريرات  + تخبط واستبداد = سياسات كاذبة ( حركة مراوغة ).

 

- شعب خانع+ نظام سياسي فاشل + انعدام قدرات= دوائر التملق(الوضع السائد).

 

والدوائر أشبه بخيط العنكبوت التي ينسجها المتملقون(من أعلى إلى أسفل والعكس). حيث تنتج في حقبة من الحقب ثقافةً جاريةً تكتسح مجتمعاً عبر مستوياته المتداولة. ويغدو التملق لغةً لها معجمها السياسي والوظيفي والاجتماعي والطقوسي. فينشر تراكمه مضيعاً آفاق العلاقات الحقيقية. وبالمدى التاريخي يرسخ التملق لنماذج حياتية من جماعات الهامش تسرق قدرات الدولة وتؤكد أصحاب المصالح على ذات المنوال. والجماعات تبدو كأنها تقضي المنافع لكنها تخرب السياسة وتفخخ جوانب المجتمع(كالأقرباء والأعوان والموالي) بالنسبة للحكام المستبدين.

ذلك نتيجة لما نراه يومياً في أروقة بلدنا حيث يمثل النفاق والتسلق وصنع الدسائس أبرز آليات الشأن العام. أشياء يتعلمها المسئولون نتيجة الدربة والخبرة في بطن القطاعات التي يعملون بها. وإذا كنا نعرف ضعف القوانين وفشل الكوادر للنهوض بمجتمعنا، فالمتملقون هم أصحاب الرأي والغلبة والاستشارة والفتاوى والأحزاب ورؤساء الهيئات التعليمية والثقافية... ماذا بقي من جثة الدولة لم يخترقوها كاختراق الديدان للجيف العفنة؟!!

 

لقد كان من مساوئ النظام الفاشل الاستبدادي مما لاحظه ابن خلدون في الفصل السادس من مقدمته، ما يصل الناس إليه من هوان وفقر وذلة بسبب إبائهم وشموخهم وترفعهم عن أخلاق الخضوع والتملق الذميمة. يقول ابن خلدون "إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب، وأن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا التملق". ويمكن لك أيها القارئ العزيز أن تتخيل من تشاء من الوزراء والسياسيين وتجار في بلادنا وهم يقفون ويمولون التملق والتزلف والدفاع عن النظام ومساوئه ، ويتحملون ما لا يمكن لنفس أبية أن تتحمله في سبيل ما يظنونه سعادة وكسبا.

مما جعل جيش  المتملقون من صحافه واكادمييون يتسابقون للكتابه في الصحف ووسائل التواصل للدفاع عن النظام الفاشل المتخلف، وينادون باستمراريته، يتقربون بذلك زلفى إلى الرئيس، لعله يرمي إليهم بمنصبٍ في وزارة أو سفارة إداره.

 

 

10. فبراير 2021 - 8:03

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا