رسالة إلى عزيزين صديقين/ الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

كم وددت أن أخاطبهما مباشرة، وألقي عليهما ما في نفسي حتى أجنبهما وأجنب البلاد الاكتواء بنار صراعهما العبثي المدبر.. ولكن هيهات!

أما هما فسأحاول تقديمهما إليهما، وإلى المتلقي في سطور. إنهما:

رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز؛ ضابط وطني شجاع كان شاهدا منذ سنين على نمو وتطور سرطان الفساد الذي طحن العباد وأفسد البلاد. وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، خرج في كوكبة من زملائه أزاحت الطغيان والهيمنة، وشرعت طريقا سالكا نحو إعادة بناء الدولة الوطنية، وتحقيق عزة واستقلال وازدهار موريتانيا. وعندما أجهضت تلك الحركة وسرقت أحلام الشعب باسم ديمقراطية زائفة وتربع المفسدون من جديد في السلطة وقطعوا رؤوس الجيوش الثلاثة بقرار غاشم. كرّ الضابط ـ الجنرال وصحبه كما فعل راولينغ في غانا فأنهى الردة وأعاد الأمل والأمن وفتح الورشات في عموم أرجاء الوطن.

رئيس المال والأعمال السيد محمد ولد بعمات؛ رجل عصامي ناجح سطع نجمه في سماء المال والأعمال فخلف بجدارة فقيد الأمة الرئيس سيد محمد ولد العباس في جميع خصاله وخلاله، وفي مقدمتها الإنفاق والعمل الخيري الذي يقف شاهدا عليه صرحه الخيري المنقطع النظير الذي أبصر النور بواسطته مئات آلاف المواطنين. وفوق ذلك كان السيد محمد ولد بعمات عراب حركة الثالث من أغسطس المجيدة المذكورة. فتح لها أبواب العالم، وأقنع بها جميع أصدقائه في الداخل والخارج؛ وهم كثر ومؤثرون، ومهد لها طريق النصر والنجاح! ولم يتوقف دوره عند هذا الحد، بل واكب كذلك بنفس الحماس ونفس الاستعداد والتضحية حركة تصحيح 6 أغسطس ودعمها بماله وجاهه حتى نجحت واستتب لها الأمر.

لقد شكل الرجلان أساس ودعامة ووجه التغيير الإصلاحي الذي عرفته موريتانيا منذ 7 سنوات، ونعمت بثماره! ولذلك استهدفتهما سهام القوى المعادية للتغيير والإصلاح (أحزاب وصحافة ونقابات ومجتمع مدني) فحاولت في بداية الأمر الإجهاز عليهما معا. وعندما تعذر عليها ذلك، أخذت تبذل قصارى جهدها بغية التفريق بينهما وتشتيت شملهما حتى تتمكن من القضاء عليهما بالتقسيط.. الواحد تلو الآخر. وهكذا وسوست لكل منهما بما ليس في صاحبه وأغرته به وصورته له شيطانا مريدا لا ينجو إن نجا! وقد نجحت - أو تكاد- تلك المساعي الهدامة اليوم في بلوغ هدفها حيث وصلت العلاقات بين الرجلين الرمزين إلى الحضيض دون أن ينتبها ويرعويا، أو يتذكرا قول القائل:

أرى خلل الرماد وميض نار+++ يوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعودين تذكى +++وإن الحرب أولها كلام

فقلت من التعجب: ليت شعري+++ أأيقاظ أمية أم نيام؟

الإصلاح لا يأكل أبناءه

إذا كان من عادة الثورة التي تقلب الأوضاع رأسا على عقب، أن تأكل أبناءها في خضم التغيير العنيف الذي تحدثه، فإن من عادة الإصلاح الذي هو تصحيح وتصليح الخطأ والانحراف والاعوجاج، والانتقال السلس من السيئ إلى الأفضل، أن يصون ويحمي ويُعِز أبناءه الذين ينالون حقوقهم شبه كاملة في إطاره دون أن تتسع الشقة بينهم.

خصوصا أن التناقضات بين المصلحين والمفسدين نادرا ما تصبح ذات طابع عدائي في ظل الإصلاح، ناهيك عن التناقضات بين المصلحين أنفسهم؛ والتي يفترض أن يكون مناطها اختيار السبل الأنجع في تحقيق وتسريع الإصلاح المنشود.

في حديث سابق عن الفساد في موريتانيا، وعن جوهره "الجمع بين الأختين (السلطة والمال)" قلت: "هل هي دعوة للثورة على الفساد والاستبداد؟ كلا! بل دعوة إلى الإصلاح والعدل، دعوة إلى وحدة وتكاتف قوى المجتمع ذات المصلحة في الإصلاح والتغيير الإيجابي، من أجل عزل وتقليم أظافر أعتى المفسدين وتجريدهم من السلطة، وإبعادهم عن الشأن العام، ووقف نزيف نهب المال العام، واستباحة الدولة؛ والشروع الفوري في العمل على تحقيق هدف الفصل بين السلطة والمال الذي لا يمكن الإصلاح والعدل بدونه" (أزمة الحكم في موريتانيا ص 209).

وبعد هذه الدعوة تم التوصل إلى حلول ودية تضمن المصالح العليا للوطن والمواطنين لكثير من المشكلات التي برزت خلال السنوات السبع المنصرمة من عمر الإصلاح.

وإن لنا في المصلح الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة حين أعلن يوم الفتح في حق من كذبوه وآذوه وأخرجوه وقاتلوه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (فما بالك بأخ آزر ونصر!) وشرع نظام "المؤلفة قلوبهم" ورفض قتل المنافقين حتى لا يقال: «محمد يقتل أصحابه»!

الصلح خير

..."وأحضرت الأنفس الشح"

ويدعو إليه القانون وجوبا ذوي القربى. ومما لا شك فيه، أن الصلح في هذه النازلة خير وممكن. خير لأنه يجنب الفتنة، ويضمن المصالح الأساسية للطرفين وللوطن الذي هو في غنى عن هدر طاقاته سدى وعبثا في مهب الرياح. وممكن لقوة الأواصر التي تجمع الطرفين، ولسهولة الوصول إلى حل للخلافات الأخوية التي لا تتسم بأي طابع عدائي.

ومع ذلك، فإن من الصعب أن يتكلل هذا الصلح بالنجاح ما لم تتحرك في سبيله كل القوى الخيرة في البلاد؛ وذلك بسبب غفلة بعض الأطراف، وما تمارسه شياطين الإنس والجن من نميمة وتحريض وتصعيد.. بغية إشعال نار الفتنة بين الطرفين إما طمعا في نيلهما أو سعيا للنيل منهما والقضاء عليهما والاستحواذ على السلطة والإطاحة بالإصلاح! مثلهم في ذلك مثل مَنْ مِنَ الإداريين ورجال الأمن والقضاة والمحامين يعيشون على بذر الفتنة وتوسيع الشقة بين الناس. أو مثل القوى العظمى التي تذكي حروبا بين أعدائها وتمدهم جميعا بالسلاح كي يهلك بعضهم بعضا، ولا ترجو أن يكون من بينهم منتصرا.

ترى هل سيتسنى للرجلين الفاضلين أن ينظرا إلى ما هو أبعد، ويتجاوزا المصالح والاعتبارات الضيقة، ويحرصا على ما هو أهم: مصلحة العباد والبلاد؟ وهل سيتسنى لهما أن يعرفا ويدركا أنه لا يوجد تناقض عدائي بين مصالحهما، بل لا يوجد بينهما تناقض إن حافظ كل منهما على الحدود الطبيعية بينه وبين أخيه، واحترم له تخصصه المتميز والمختلف عن تخصصه هو.

نحن لا نعتقد أن من مصلحة الرئيس محمد ولد عبد العزيز -ولا من مصلحتنا- أن يشتغل بالأعمال، أو يكون ممثلا لرجالها، لأنه بذلك سيغتال القائد السياسي في داخله ويئد الحلم الوطني في الإصلاح، فيكف عن أن يكون رئيس الفقراء الذين أسمعوه صوتهم قبل أن يعطوه أصواتهم ويأتوا به إلى سدة الحكم، والذين ما يزالون في أمس الحاجة إلى رئيس يحكم باسمهم ويرعى مصالحهم بعد أن عاشوا قرونا وقرونا من القهر والاستعمار والاستبداد والفساد. وإنما من مصلحتنا أن يحكم بالعقل والعدل والحلم، ويتأسى في ذلك بالرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، وبكبار الساسة والدهاة الذين يؤلفون بين قلوب الناس حول سياسة ونظام الإصلاح دون أن يتنازلوا عن رسالاتهم العظيمة، ويُعَرِّفون بعضا ويعرضون عن بعض، ويحافظون على شعرة معاوية أن لا تقطع أو تترك سدى؛ فيجمعون بين الحِلم والصرامة، ويفرقون بين الأختين: السلطة والمال.

ولا نعتقد كذلك أن من مصلحة الرئيس محمد ولد بعمات -ولا من مصلحتنا- أن يكون رئيسا للجمهورية ولا زعيما سياسيا كما زين له بعض أصدقائه وأعدائه على حد سواء إبان الفترة الانتقالية، لأنه سيكف عندها عن عطائه في مجال المال والأعمال الذي تحتاج إليه نهضة البلاد ويصبح مجرد رقم في جيش الزعماء والرؤساء الذي ينخرنا مثل السوس. بل نريد منه أن يبقى قطبا اقتصاديا وطنيا يستثمر في بلاده بأمان، ويؤدي واجباته بصدق، ويعمل الخير لنفسه ولشعبه!

وفي هذا السياق لن يكون هنالك احتكاك أو تصادم بين الرجلين؛ بل سيسيران على خطين وطنيين متوازيين لا يلتقيان (وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله ـ كما قال أحد المدرسين) أو كقرني ثور يوازي كل منهما الآخر دون أن يصطدم به أو يؤذيه، ويدعم كل منهما الآخر عند التعرض لخطر خارجي.

كانت بلادنا قبل الاحتلال الأجنبي إمارات متنافسة ومتصارعة ومتعايشة. ومن حكاياتنا أن أميرا وفد على نظيره فأدهشه ما تنعم به إمارته من انسجام وعدل ورخاء، فسأله عن سبب ذلك، فأجاب قائلا: لقد فرضت احترام كل فئة لتخصص الأخرى. ورغم ما يحمله هذا الجواب يومئذ من ترسيخ لفئوية المجتمع العتيق التي أصبحت بالية في هذا العصر، فإنه مثل صالح في حالتنا؛ حيث يجب أن يحترم كل طرف مجال تخصص ومنزلة ودور الطرف الآخر إذا أردنا لبلادنا خيرا!

أيها العزيزان الصديقان لعل خير ما أختتم به رسالتي الودية إليكما أن أنشد فيكما ما أنشأه وأنشده العاقل ابن العاقل في إصلاح ذات بين قومه:

تنازعتما هذا الذنوب وإننـــــــي ** على وجل أن تستحيل بكم غربا

فأنشدت والإنسان ذو اللب ماحض ** نصيحتـه أهـل المودة والقـربـى:

أيا أخوينا عبد شمس وهاشمــــــــا ** أعيذكمـا بالله أن تحدثـا حربـــا.

 

13. فبراير 2013 - 10:07

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا