المرأة وحضورها في الشأن الديني والواجب التربوي / د.رقية أحمد منيه

الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه  عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

 والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد

فإن رسالة الإسلام الخاتمة للرسالات السماوية اشتملت على كل معاني المساواة بين المكلفين؛ لذلك اتسم  الخطاب الشرعي بالعموم، في تقعيد القواعد وتوضيح المقاصد وتبيين الأحكام العامة، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.[1]

إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين كما صرحت به النصوص، وقد أعياهم الإتيان بمثل ما جاء به من الذكر الحكيم، يقول الله سبحانه جل من قائل: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.[2] ، وهذا الإعجاز حجة عليهم ودال على عظيم قدر الفرقان وبديع أسلوبه لأنه تنزيل الحكيم الحميد، وفيه أيضا بيان عموم توجه الخطاب القرآني إلى بني الإنسان ذكرهم وأنثاهم وقد صرح بذلك في مواضع كثيرة أذكر منها على سبيل المثال: قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾.[3] ، يقول صاحب التحرير والتنوير في قوله تعالى: ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾؛« قَصْدُ التعميم والرد على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية».[4]

ومنع المرأة من حق المساهمة في تنوير المجتمع إنما يندرج تحت التصورات الجاهلية واستحضار لنمط تحجر العقل والشعور في أزمنة غابرة كان مصير المرأة الوأد حية أو الإقصاء والتهميش في أحسن الأحوال؛ فيقضى الأمر في غيبتها ولا تستأذن وهي شاهدة، ولا حظ لها في عظائم الأمور فما بالك بغير ذلك من الأحوال التي تتولاها بنفسها عادة نحو التنشئة والتربية والإرشاد والتوجيه، ولم تكن لها مكانة ولا شأن يذكر ولا يقبل منها صرف ولا عدل في عرف المجتمع الجاهلي؛ وهو ما أبطله الإسلام،  يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.[5] ، وقوله تعالى:  ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾:« تبيين للعموم الذي دلت عليه(من) الموصولة، وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء، ما عدا ما خصصه الدين بأحد الصنفين، وأكد هذا الوعد كما أكد المبين به».[6]  

وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.[7]؛ يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: «﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، بعضكم من بعض في الثواب والأحكام والنصرة وشبه ذلك».[8] ، وقال ابن جزي في تفسيرها: « النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات».[9]

 ولا يجد المتتبع كبير عناء في الملاحظة؛ أن نصوص الوحي تتسم بشمولية التعاليم، وما يرد في الإسلام من الأوامر والنواهي تُفصِح عن تناول شرع الله لكل أوجه حياة الإنسان؛ السلوكية والتربوية بصفة خاصة والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل أعم ، ودون تمييز بين جنس وآخر إلا ما كان من الأحكام الجزئية المتعلقة بخصوصية كل وفقا لطبيعته الخلقية، ومحافظة على وظيفته الأصلية من تعمير الأرض والسعي في إصلاحها طبقا للمنهج الرباني القويم، ومع ذلك لا  يسد باب التعاون على البر والتقوى أمام أحد من أفراد المجتمع المسلم، بل وجه القرآن الكريم إليه وأمر به، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.[10] فالتعاون على كل بر وتقوى مطلوب ولا تقتصر مهمة التبليغ على الرجال دون النساء.  

 وقد كان من المنح الإلهية والمنن الربانية إرسال نبي الرحمة إلى كل الناس بالخير والهدى والنور والرفق بالإنسان والجان والحيوان والجماد وقصة حنين الجذع خير شاهد؛ عنْ أنَسِ بْنِ مَالكٍ- رضي الله عنه- { أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ إِلَى لَزَق جِذْعٍ وَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَراً فَخَطَبَ عَلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ فَنَزَلَ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ}.[11] 

أرسل رسوله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا،  وجاءت رسالته بمبادئ العدل والرحمة لكل العالم، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [12] يقول ابن جزي في تفسير الآية: « والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة».[13]، ويقول القرطبي في تفسير الآية: « قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق».[14]، ويقول الآلوسي مبينا حال كون الرحمة هنا عامة: « استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك. أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو رحما لهم ببيان ما أرسلت به».[15]، ومن بديع وصفه صلى الله عليه وسلم بالرحمة: وقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله[16]، ويستدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{ وإنما بعثني رحمة للعالمين}.[17]، والتعريف في (العالمين) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم عالم.[18]، والمرأة ليست استثناء من العالم، وإذا علم عقلا توجه رسالة الإسلام إليها؛ فهم ضرورة مشاركتها في التبليغ تحقيقا لصون مقاصد العقلاء عن العبث في الاستنباط. 

إن المرأة في الإسلام لها مكانتها السامقة تجسدت في مساواتها مع أخيها الرجل في عموم التكاليف الشرعية وإن خص كل منهما بأحكام تفصيلية مراعاة للقدرة الجبلية. 

 وفي الحقوق والواجبات لهن مثل الذي عليهن، وقد فرض لهن الشارع من الحقوق المعنوية والمالية ما يزيد على الذكور رفعا لقدرها وصيانة لها عن التعرض لمشقة الكسب؛ فجعلها محمولة النفقة في كل الأحوال فلا تجب عليها النفقة بل تجب لها ولو كانت غنية، كما خفف عليها الأحكام الشرعية في أوقات الضعف الإنساني؛ الحيض، النفاس.. 

وقد أعطى الشرع الحنيف للمرأة من الحقوق، ما يرفع قدرها، ويحفظ لها كرامتها الإنسانية، وأناط جل حق بر الوالدين بحسن صحبتها، فلها ثلاثة أرباع البر تقديرا لقيمة الأمومة، واعتبارا لما تعانيه الأم من ثقل الحمل، وفقد طاقة الجسم تغذية للجنين من دمها وعظمها، وآلام المخاض، ومعاناة وبذل جهد في فترة الرضاع، والصبر على التربية، وتوفير الحنان والرحمة بالصغار، والسهر على المداواة، وتقديم الرعاية والحضانة، يقول الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أُمُّكَ} ، قال: ثم من، قال: { أَبُوكَ} .[19]

إن قيم الإسلام السمحة اللابسة رداء العدل وثياب المساواة وخلعة الإنصاف ولباس التقوى والمتدثرة بدثار الحياء والعفة؛ انطلقت من مهبط الوحي إلى أصقاع العالم مع المهاجرين الأول، ولعل من لطائف منعطفات التاريخ الإسلامي؛ أن تكون أول هجرة في الإسلام إلى قارة إفريقيا الفتية المتسمة بتنوع الأعراق والثقافات، إلى الحبشة حيث العدل وملك لا يظلم عنده أحد كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم[20]؛ فكان عدل ملك الحبشة باعثا إلى الخروج إليه رغم بعد الشقة وتحمل المشقة إظهارا لقيمة العدل مع اختلاف الملة.

ويلاحظ في رحلة الهجرة إلى الحبشة الحضور الفاعل للمرأة المسلمة المهاجرة بدينها.

 إن ما أودعه الله من الرحمة والحنان في قلب الأم أهلها لوظيفتي التربية والحضانة للأبناء؛ فتتحمل ثقل الحمل رغم ضعفها بكل طيب نفس وانتظار للفرح بالمولود، قال الله سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.[75] يقول الزمخشري: « والمعنى: أنها تضعف ضعفا فوق ضعف، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، ازدادت ثقلا وضعفا».[76]

 ومن لطائف الإشارات القرآنية في معاني الرحمة الجبلية للأم؛ قوله تعالى: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾.[77]، يقول صاحب التحرير والتنوير: « وجملة يرضعن خبر يراد به التشريع، وإثبات حق الاستحقاق، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن».[78]، فعبر بفعل المضارع دون الأمر تنبيها على الحنان الخَلقي للأم، وفي حق الوالد عبر بفعل الأمر دلالة على الوجوب؛ يقول القرطبي في تفسيره: « وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد».[79]، وإذا علم أن الواجبات الأسرية في الشرع الحنيف وزعت بعدالة وتكامل، وأن الأوامر لا تتعارض؛ فإن الواجب التربوي يناط بالأم، والقيام بالنفقة والرعاية يناط بالأب.

 إن الواجب التربوي  يجعل المرأة تتولى أشرف الأعمال وأنبلها؛ ألا وهو بناء شخصية الطفل والعناية بسلامة فطرته، وغرس القيم والأخلاق الفاضلة في النفس، ولها الدور الأبرز في صيانة تماسك الأمة وصلاح الأجيال الناشئة، والحماية من الانزلاق نحو الهاوية أو التردي في مزالق الرذائل.

إن المرأة المسلمة لا تقل عن الرجل المسلم في التكليف وإنما يختلفان في المهام، ولا يتفاوتان في المكانة وإنما يتمايزان في اختلاف أعباء تكوين النواة الأولية للمجتمع، هذا من حيث الأصل.

والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

28. ديسمبر 2021 - 9:09

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا