التشاور الوطني: للمساومة السياسية أم لإستعاب الأزمة التنموية ؟ / بوبكر أحمد

من المنتظر أن تنظم موريتانيا خلال الفترة القادمة، " تشاورا وطنيا" استجابة لإلحاح بعض المجموعات السياسية. رغم أن تجربة الحوارات ليست بجديدة على موريتانيا وتنتهي في الغالب بترضيات سياسية لصالح المتحاورين أكثر من خروجها بتوافق عميق حول الإشكاليات الكبرى التي تعاني منها البلاد ذلك انها ظلت دائما عبارة عن "مساومات حصرية للنخبة" تدور حول شخوص الفاعلين الأساسيين مما جعلها أضيق من استيعاب الضغط المجتمعي. 
ففي بلد مثل موريتانيا يتميز منذ الاستقلال ب (التضخم السياسي والعجز التنموي والتخبط الاقتصادي) يعتبر من الضروري تحقيق حالة من الإجماع الوطني على نموذج بديل يأخذ في الاعتبار انتهاء صلاحية المنهج المعتمد منذ عقود (إن لم نقل فشله) وعدم قدرته على تقديم معالجات جذرية للمسألة الاقتصادية والاجتماعية واكتفائه بتقديم المسكّنات والحلول الترقيعية الظرفية. 
ورغم ان النموذج المعتمد منذ مطلع التسعينات حتى اليوم نجح في تحقيق إنجازات هامة في مقدمتها تطوير البناء الديمقراطي وترسيخ الحقوق والحريات بالإضافة الي تطوير ملحوظ للبني التحتية الأساسية وتحسن كمي في معدلات التحاق الجنسين بالتعليم الأساسي مع الانفتاحِ حضاريا وثقافيا على الفضاء الكوني والنجاح المتميز في تجنيب البلاد للانزلاقات الأمنية الخطيرة التي شهدتها غالبية دول المنطقة. 
لكن بالمقابل احتوي هذا النموذج على العديد من الاختلالات والمساوئ الكبرى ولعل من أبرز مظاهرها: 
•    سياسيا: خريطة سياسية تتكون بالأساس من حزب حاكم كبير مسيطر يستمد قوته من عاملين لا علاقة لهما بطبيعته وأدائه كحزب: أولهما: أن رئيس الدولة هو مرجعية الحزب. وثانيهما: التداخل بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة، مع توظيف الأخيرة لحساب الحزب. وأحزاب معارضة تعاني من الضعف والهشاشة وعدم القدرة على التنسيق الفعال فيما بينها. مع عشرات الأحزاب الكيانات " الإدارية " خلقتها واحتضنتها الدولة من أجل تمييع الحياة الحزبية و خنق و إعاقة كل محاولة لبناء ديناميكية مجتمعية مستقلة.
•    هذا مع تدخل الدولة- طوال هذه الفترة -بثقلها وامكانياتها في الحياة السياسية وهو ما حولها الي ممارسة شكلية متحكم فيها حيث أصبح الحقل السياسي مفصولا عن المجتمع لا يعبر عن تناقضاته بقدر ما يعكس تبادل الأدوار بين كيانات فاقدة للاستقلالية و للمشروع المجتمعي الواضح تتماهي مع النسق السياسي للدولة تنفذ و تبرر اختياراتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية من مختلف المواقع سواء من داخل الأغلبية أو المعارضة لخدمة مصالح فئات محددة وهو ما افرغ التعددية من محتواها و صنع خريطة سياسية وهمية لا علاقة لها بالواقع المجتمعي.
•    هذا الواقع تسبب في جمود في الخطاب العام: حيث تم استهلاك شعارات ومعاني كثيرة على غرار (الإصلاح، محاربة الفقر، الفساد، التنمية، التشغيل. الخ) على المستوي الرسمي و (محاربة العبودية، الوحدة الوطنية، النضال من اجل الحريات، محاربة الدكتاتورية ...الخ) على مستوي المعارضة، وتم إفراغها من معانيها السامية بشكل اهتزّت معه ثقة المواطن في الطرفين و انتقل مركز الفعل السياسي من الفضاء العام التقليدي إلى الفضاء العام الافتراضي وحدث فراغ تسلل منه بشكل لافت خطاب شعبوى خطير ذا طابع تجزيئي وجد في وسائل التواصل الاجتماعي قنوات ناجعة للتعبير والترويج، ينضاف الي كل ذلك استقطاب حاد على المستوي الجهوي يستمد جذوره من خلفيات اجتماعية ومصلحية ضيقة تسبب بشكل أساسي في تعطيل تنمية الداخل وتبديد مقدراتها.  
•    علي المستوي المجتمعي: تمايز المجتمع الي ثلاث طبقا: عليا تحتكر الامتيازات ودنيا تزداد هشاشة وبينهما طبقة وسطي تتقلص تدريجيا تحت ضغط معيشي متزايد مما ينذر بتلاشي الجسر بين الطبقتين وهو ما لن يؤدي في النهاية الا الي انفجار اجتماعي خطير على غرار ما حدث في بعض دول المنطقة حيث إن “جذور الربيع العربي تعود إلى استياء الطبقة الوسطى” على حد استنتاج البنك الدولي عام 2015.
•    علي المستوي الرسمي: ضعف ثقة المواطن في المؤسسات التي طغي عليها فقدان التحكم في الموارد البشرية والمالية المتاحة مع عدم القدرة على تقديم بدائل ذات مصداقية وإدمان الحلول العشوائية والتركيز على الطابع الكرنفالى مع الاعتماد شبه المطلق على المساعدات الفنية والمالية الخارجية، فضلا عن تغوّل أصحاب النفوذ وتبديد مقدّرات الدولة واختراق بعض مفاصلها من طرف قوى الفساد واللوبيات المصلحية، مع ضعف الحس الأخلاقي وقيم النزاهة لدى غالبية المكلفين بتسيير الشأن العام. وقد زاد من فداحة هذا الوضع اعتماد نهج ضيق في اختيار كبار المسؤولين يشبه محاصصة اجتماعية غير معلنة -على حساب الكفاءة والوطنية-نتج عنه تأجيج الصراعات والنعرات المحلية الضيقة مما خلق استنزافا للجهاز الإداري العمومي في صراعات عبثية لا طائل من ورائها.
•    على المستوي المالي: تم الانزلاق تدريجيا نحو نهج جبائي صارم، يحول الدولة نفسها الى ما يشبه مؤسسة ربحية تحصِّل المكاسب من المواطنين من أجل سد عجز الميزانية ، بدلًا من القيام بدورها التقليدي كجهاز رعاية للشعب. هذا بالإضافة الي الحاجة الدائمة إلى التمويل عبر مزيد من القروض التي تؤدي إلى ترحيل الثروات عبر خدمة الدين. 
•    علي المستوي الاقتصادي: تميز النموذج الحالي بانتشار واسع لاقتصاد ريعي مغلق يقوم على أساس منح الامتيازات والاستثناءات العقارية والتراخيص والحماية التجارية لفئات معيّنة على أسس اجتماعية وسياسية ضيقة من دون مراعاة اعتبارات المنافسة والكفاءة الاقتصادية. 
•    يُضاف إلى ذلك غياب رؤية استراتيجية واضحة والعجز عن مواكبة نسق التحوّلات المتلاحقة وطنيا ودوليا منذ التسعينات، مع ضعف القدرة على تنظيم وتطوير القطاعات الحيوية وطغيان الاحتكار وانتشار المضاربات وتنامي السوق الموازية على حساب الاقتصاد المنظّم. ولعلّ ترتيب موريتانيا المتأخر على جميع المؤشّرات الاقتصادية والتنموية العالمية طوال هذه الفترة يعتبر أبلغ دليل على هذا الفشل المدوّي وعلى انعكاساته المدمّرة على حياة المواطن وعلى قدرته الشرائية، وصحّته، وتعليمه وأمنه الغذائي.       
•    علي المستوي الاجتماعي: ارتفاع مفزع في نسب الفقر والبطالة وخاصّة في صفوف الشباب وحاملي الشهادات وتزايدا مهولا في معدّلات التسرّب المدرسي وتوسّع رقعة الفئات الهشّة وعدم القدرة على مسايرة النمو الديمغرافي وتنامي مقلق للجريمة بأنواعها في ظل انهيار مستمر لمنظومة القيم وتردي أخلاقي غير مسبوق.
ولقد زادت من حدة الوضع هرولة النخب الوطنية من سياسيين ومثقفين وغيرهم وراء الامتيازات الشخصية على حساب المثل العليا، مع العجز الواضح على الصّعيد النظري والعملي عن تقديم تصور واضح للإصلاحات الضرورية وطبيعتها ومضمونها ومجالاتها وترتيب الأولويات وإدارة الشأن العام الوطني بمختلف أبعاده السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والمجتمعية.
لقد ولد هذا الواقع إحباطا عاما على المستوي الشعبي حيث يسود منذ سنوات مزاج سلبي يطبعه فقدان الثقة في المثقف والسياسي، والخوف من المستقبل وتطغى عليه مشاعر فقدان الأمل والرغبة في التغيير نتيجة الاحساس بالغبن والتهميش وانعدام المساواة في ظل منظومة لا تمثل بشكل أساسي سوي مصالح النخبة المسيطرة عليها.
إذا نستنتج بداهة انتهاء صلاحية (إن لم نقل فشل) المسار المعتمد وانحساره مع عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة كبيرة من المواطنين وعجزه عن تقديم معالجات جذرية للمسألة الاقتصادية والاجتماعية واكتفائه بتقديم المسكّنات والحلول الترقيعية الظرفية. 
ان فشل المسار الحالي هو قبل كل شي فشل للاختيارات الكبرى التي أقدمت عليها الأنظمة المتعاقبة منذ عقود. هذه الاختيارات فشلت لأنها لم تكن ملائمة لواقع البلاد ولا لحاجيات الشعب ونفذت في إطار نظام معاكس للإنتاج وفي ظل تعويم تام للمسؤولية و استحالة للمحاسبة الحقيقية.
كل ما سبق يضعنا أمام ضرورة ملحة لإعداد نموذج جديد نعتمد عليه في مواجهة التحولات الكبرى وفي مقدمتها التقلبات العميقة التي يشهدها النظام العالمي جيوسياسيا واقتصاديا وصحيا.
 ان النموذج المقترح يتطلب إرادة سياسة صادقة لإحداث القطائع الضرورية مع (النموذج السياسي المتمركز علي صنع الخرائط السياسية والمقاربة الأمنية لإسكات كل اشكال التعبير و أيضا مع الفساد والريع وكل أشكال الاحتكارات و امتيازات الزمن الغابر) كما يتعين أن يستند على الانصات لنبض الشعب وطموحاته بما يضمن التكامل بين “دور الدولة” و” فعالية المجتمع”. وان ينبثق من مقومات مجتمعنا ومكتسبات وطننا، و من حاجياته المتصاعدة والمتجددة، ومن خصوصياتنا الثقافية والتاريخية والحضارية، ومن مؤهلاتنا المادية والبشرية، بِّمَا يُحَسنُ تموقع بلدنا في محيطه الدولي، ويعيدُ الثقة لدى المواطنات والمواطنين في وطنهم ومؤسساته وقواه النخبوية. 
إن النهج التنموي الجديد يجب أن يجعل من السياسي والأمني وسائل لرفع وتعزيز المسألة الاقتصادية والاجتماعية -لا العكس-وأن يتميز بالملامح العامة التالية: 
-    إعادة ضبط السلوك السياسي للدولة بما يضمن التخلي عن سياسة تمييع الحياة العامة و صنع الكيانات الحزبية و الخرائط السياسة علي المقاس .
-    تعديل دستوري يعترف بشكل صريح بحق كل مواطن في التعليم، الرعاية الصحية، الوظيفة والسكن اللائق. 
-    إعادة صياغة السياسات العامة بما يضمن الانتقال من مجتمع مبني على الوساطة والامتيازات والدوائر النفعية المغلقة الي مجتمع الحقوق المكفولة للجميع على قدم المساواة، وفي مقدمتها حق كل مواطن في الحصول على (سكن لائق، تعليم جيد، خدمة صحية مقبولة، ووظيفة). 
-    دسترة آليات مكافحة الفساد ومنح محكمة الحسابات سلطة تحريك الدعوي العمومية لحماية المال العام من اجل ابقاءها بعيدة عن الحسابات السياسية والعراقيل التي تضعها السلطة التنفيذية. 
-    القضاء على الممارسات الريعية ورسم حدود واضحة بين الامتيازات السياسية والمسألة الاقتصادية والاجتماعية. 
-    إصلاح اداري عميق يضمن تغيير وتحديث أساليب العمل والقضاء على بؤر الفساد المتعددة مع وضع معايير واضحة لاختيار المناصب العليا. 
-    اعتماد رؤية اقتصادية للبلد تتضمن تخفيف الاعتماد على استخراج المعادن وتقليص القطاع غير المصنف كما تقترح حلول اصلاح جذرية في مقدمتها (الإصلاح العقاري، اصلاح النظام المصرفي، كسر الاحتكار وتعزيز المنافسة العادلة، منع المضاربات التجارية.... الخ)
-    التوازن بين الاستثمار العمومي في البني التحية ورأس المال البشري والإنتاج بما يضمن الانتقال من نموذج يرتكز على تشييد المنشآت الي نموذج يراهن على بناء القدرات. 
-    إصلاح النظام الجبائي بما يضمن التوازن بين سد عجز الميزانية و تعزيز القدرة الشرائية للمواطن  
-    إصلاح برامج الحماية الاجتماعية من أجل المواصلة في دعم الفئات الهشة بالإضافة الي إنقاذ الطبقة الوسطي الحضرية وخلق طبقة وسطي ريفية مع وضع برنامج خاص لإشراك المقيمين في الخارج «للاستفادة من معارفهم وشبكاتهم وخبراتهم». 
-    إعادة احياء القيم الوطنية والتعبئة العامة حولها مع تجريم تنازع المصالح واستغلال مواقع النفوذ والامتياز بالإضافة الي محاربة العقليات والمسلكيات الفئوية الضيقة. 
إن اعداد مثل هذا الحلول يتطلب جيلا جديدا من المشاريع. مثلما يتطلب أيضا نخبة جديدة من الكفاءات، في مختلف المناصب والمسؤوليات، وضخ دماء جديدة، على مستوى المؤسسات والهيآت السياسية والاقتصادية والإدارية. 
كما يتطلب أيضا توافق والتزام بين مكونات المشهد السياسي والقوي الوطنية والخبراء.. الخ بخصوص ميثاق شرف تنموي يجعل الازدهار الاقتصادي والاجتماعي غاية والعمل السياسي وسيلة -وليس العكس- ليكون بمثابة التزام سياسي ومعنوي أمام الشعب ومرجعية مشتركة تضمن انخراط الجميع في التنمية من اجل تحقيق طموح جديد للبلاد يتم السعي الحثيث اليه خلال السنوات المقبلة مهما تغيّرت الحكومات.

 

 

 

18. أبريل 2022 - 17:15

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا