"نظام الجدارة " وتجربة سنغافورة / نعيم ولد لبات

تعتبر سنغافورة من البلدان الفريدة التي شقت طريقها نحو التطور رغم أنها  مجرد جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لا تملك أي موارد طبيعية. في هذا السياق سأتحدث عن نظام الجدارة  وكيف تمكّنت الحكومة السنغافورية من  إنشاء أهم الاقتصادات وخلق أكثر المجتمعات نجاحاً على مستوى العالم في غضون بضعة عقود لا أكثر. 
  لقد كان نظام الحوكمة بالجدارة حقاً، بمثابة الريح الدافعة لأشرعة سنغافورة نحو التقدم, وقد عمل القادة المؤسسون للنظام الإداري السنغافوري على تأسيس نظام الجدارة حيث تسند المسؤوليات للأشخاص المتميزين  أخلاقيا ومعرفيا و اصبحت  الجدارة القيادية هي الأساس في التعيين في الوظائف العامة. يقول لي كوان يو(المؤسس) في هذا السياق : ” تحتاج القيادة السياسية القوية إلى خدمة مدنية فعالة وحيادية ونزيهة . كمايجب تعيين الموظفين وترقيتهم بناء على جدارتهم القيادية وعليهم أن يمتلكوا نفس فلسفة بناء الدولة ويعملوا لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والسياسية والمعرفية والاجتماعية ، كما أنه من حقهم أن يحصلو على رواتب مجزية تمنعهم من اللجوء الى أخذ الرشوة . كما على مؤسسة الخدمة العامة أن تكون محايدة وقادرة على تقييم الشخصيات القيادية ، وعليها كذالك  تقديم المنح الدراسية لأفضل المرشحين وبالتالي تجذب أفضل المواهب في البلاد نحو الخدمة العامة وتساهم في خلق مجتمع عادل.” ويتابع  لي كوان يو : ” سواء كان والدك وزيرا أو محاسبا أو خبيرا محترفا أو عاملا عاديا أو سائق سيارة أجرة أو بائعا متجولا ، فإن موقعك وموقفك يعتمد فقط على أدائك وحدك في العمل".

لقد انطلقت ستغافورة من مبدئين هما:
 الأول - وهو ان بعض الأفراد عادة ما يكونون موهوبين أكثر من غيرهم. والثاني-  هو أن المواهب والقدرات غير المألوفة يمكن العثور عليها بين الفقراء وكذلك بين الأغنياء دون تمييز . وفي ضوء هاتين القاعدتين او المبدئين ، من المنطقي أن تستكشف  الدولة الخبرات بشكل استباقي وتعزز القدرة  والجدارة داخل شعبها. وتحقيقا لهذه الغاية ، ركزت سنغافورة على الرفاهية والرضا الشخصي اللذين يعززان  الإمكانات البشرية التي ستؤدي في النهاية إلى تحقيق إنجازات فردية وجماعية ملموسة.

لقد استمر المهندسون  في سنغافورة مثل  المؤسس لي كوان يو ، وغو كينغ سوي ، وراجاراتنام ، الذين اعتبرو أنفسهم "شيوعيون يعتمدون على الشعبية" ، في قلقهم على الفقراء والعمال المنتظمين من منطلق التزام أخلاقي عميق ، حيث أدت هذه المسؤولية الأخلاقية إلى نتائج اقتصادية رائعة. كل هذا في حد ذاته هو المبرر الأساسي لقيام سنغافورة . وقد أدت مناهج نظام الجدارة إلى تحقيق تطور اقتصادي واستقرار سياسي جدير بالثناء. وهذا ماجعل من المنطقي أن يكون حزب السلطة في سنغافورة  يواصل الحكم لفترة اطول مقارنة مع الأحزاب الأخرى .وقد انتج تطبيق المعايير التي يقوم عليها "نظام الجدارة" العديد من النتائج الإيجابية للبلد الذي يطبقه ، وليس أقلها النهوض الاقتصادي و الشعور بالمواطنة.

تستخدم حكومة سنغافورة تقييمًا صارمًا لضمان حصول الشخصيات الأكثر جدارة على الجوائز الحكومية. ويتم تنظيم هذا التقييم بحيث يتقدم المستفيدون للدراسة في أفضل الكليات في جميع أنحاء العالم ، ومن المفترض أن يحتفظوا بمكانة عالية بين الطلاب ، وأن يتخرجوا بامتياز من جامعاتهم. لذلك ، يحصل أفضل الطلاب السنغافوريين على معدلات تقدير عالية في أفضل الكليات  مثل ستانفورد وهارفارد وكولومبيا وبيركلي . 
ومن امثلة جودة التعليم ماحققته  في نظامها المدرسي،  فسنغافورة تحتل المرتبة الثانية في مايتعلق بعدد الطلاب الذين يتم منحهم  لكليتي اكسفورد وكامبردج بعد الصين، وبغض النظر عن عدد سكانها البالغ 3.5 مليون نسمة ، هناك مؤشرات مالية عالمية تُظهر بلا شك أن نهج نظام الجدارة في سنغافورة قد ساد فيما يتعلق بإخراج أقصى قدر من المواهب والكفاءات .
فعندما يتخرج الطلاب الذين تم تمويل منحهم من قبل الحكومة ، يتم توظيفهم في الخدمة المدنية العامة  لمدة خمس إلى ثماني سنوات. ولهذا يصبح لدى الشباب في مقتبل العمر خيار تولي أعلى المستويات العليا من المديرين التنفيذيين في الحكومة خلافا لباقي دول العالم.  في سنغافورة ،   العنصر الحاسم  هو "الجدارة". وتجدر الإشارة هنا إلى أن سنغافورة لم تطور فكرة "نظام الجدارة"،فكل ما فعله مؤسسو سنغافورة الأوائل هو البحث عن أفضل المؤسسات والشركات العالمية  ، ومعرفة الأسباب الكامنة وراء ازدهارها، ومن نتائج اكتشافاتهم  أن المؤسسات الخاصة تكون في كثير من الأحيان أكثر فاعلية من الادارات العامة.  وفي تلك المرحلة ، كانت شركة شل للنفط نموذجًا رائعًا. وقد ازدهرت بسبب اعتمادها على تقدم موظفيها على أساس "الجدارة" في مقابل "المنصب"..
من ناحية أخرى ، يؤكد النظام القائم على الجدارة على  أن الشركات ، سواء كانت عامة أو خاصة ، سوف تستمر في خيارات التوظيف والتقدم دون التمييز على أساس العرق أو التوجه أو الدين، في نسيج جماهيري متعدد الأعراق  ، فعلى سبيل المثال  ، أدى عدم وجود فصل حسب العرق والتوجه والدين إلى توافق استثنائي بين السكان، فكل تجمع عرقي في جمهورية سنغافورة ، بغض النظر عن قلة عدده ، لديه فرص متكافئة لشغل أفضل المناصب التي يمكن الوصول إليها في الدولة.و نظرًا لأن الاختيار يعتمد على "الجدارة" وليس "العرق" لمقدم الطلب ، لم يندهش السنغافوريون عندما اصبح الرئيس (ناثان) ورئيس الوزراء (جايكومار)  ، ووزيرة تنمية المجتمع والشباب والرياضة (فيفيان بالاكريشنان) ، وهم في الغالب من الهنود ، على الرغم من حقيقة أن الهنود يشكلون 8 ٪ فقط من سكان سنغافورة.

وفي الخلاصة نجد أن أحد الأسباب الرئيسية للنجاح الإستثنائي لسنغافورة، رغم كل العقبات والمصاعب المحيطة بها، هو قدرتها على الإكتشاف- والاستفادة من- القدرات البشرية المبثوثة عبر نسيجها السكاني صغير العدد ،مما عزز مبدئها الراسخ والقاضي بتفضيل العقلانية الاقتصادية على تحقيق الإصلاحات السياسية. وهنا، حريّ بالذكر أن الدروس المستفادة من السياسات التي انتهجتها سنغافورة قابلة للتطبيق في مختلف الدول الأخرى، مهما كان حجمها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

أ. نعيم ولد لبات : باحث وأكاديمي
 

9. مايو 2022 - 9:12

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا