حقائق مستجدة من تاريخ المقاومة / محمد الأمين حمادي

قراءة في نماذج من وثائق الأرشيف الفرنسي

مع حلول شهر نوفمبر من كل عام تتجدد ذكرى الاستقلال الوطني ومعها يعاودنا استذكار ملاحم المقاومة الوطنية خاصة منها تلك التي ما تزال مطمورة في ثنايا الأرشيف الفرنسي بعد أن غابت عن الذاكرة الوطنية ولم تعد تذكر إلا في محيط الرواية التقليدية السائرة هي الأخرى نحو الاضمحلال. 
ومن باب الوفاء والإنصاف لتلك التضحيات الجسام التي دفعها المجتمع في فترة يطبعها شح الموارد وصعوبة الأوضاع واختلال ميزان القوة، يكون لزاما علينا اليوم أن نقتنص الفرصة المتاحة والمتمثلة في الكم المعتبر من الوثائق التي احتفظ بها الأرشيف الفرنسي في حالة من التصالح مع الذات ومع الماضي الاستعماري لفرنسا وما ألحقه من أضرار بالشعوب التي تم احتلال أراضيها واستنزاف خيراتها وإقحامها في دوامة من الأحداث المتلاحقة أدت إلى اختلال وتيرة التطور الطبيعي لتلك الشعوب. 
ويحق لنا بادئ ذي بدء أن نطرح تساؤلا وجيها في نظري وهو كالتالي: متى بدأت المقاومة المسلحة في بلادنا؟
لقد لاحظت أن كثيرا من الدراسات التي تناولت موضوع المقاومة تجعل بدايتها مع مطلع القرن العشرين على اعتبار أن المستعمر الفرنسي قد قرر الاحتلال المباشر ووضع البلاد تحت الوصاية الفرنسية بداية من ذلك التاريخ. لكن هذا التصور في نظرنا يغمط مقاومتنا حقها وينتقص من قيمتها من حيث لا ندري. والواقع أن المقاومة انطلقت في مجتمعنا منذ بدايات الاتصال المباشر مع الأوربيين وخاصة الفرنسيين.
لقد كانت البدايات الأولى لتلك العمليات المسلحة ضد البرتغاليين في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي ثم جاء الهولنديون ثم الإنكليز ثم الفرنسيون ودارت بينهم منافسات ومعارك للاستئثار بالمبادلات التجارية مع سكان هذه الأرض. ويمكننا بشيء من الموضوعية أن نقول إن المقاومة المسلحة المنتظمة بهذا المعنى بدأت منذ العقود الأولى من القرن التاسع عشر مع الأمير أعمر بن المختار التروزي (1800-1829)  ثم ابنه وخليفته محمد لحبيب ( ت 1860) على إثر تعيين فيديرب حاكما للسنغال عام 1854 واندلاع الحرب عام 1855 بينه وأمير اترارزه. ولعل من أبرز مؤشرات انتظام المقاومة المسلحة مبادرة الشيخ سيديا الأبيري رحمه الله بدعوته أمراء اترارزه و لبراكنه وآدرار لاجتماع قمة في  تِندوْجه وكان على جدول أعمالها موضوع  واحد هو توحيد الجهود لمقاومة المحتل الجديد وكان ذلك عام 1855.    والواقع أن تاريخ المقاومة في مناطق الوسط والجنوب الغربي والشمال من أرض الوطن قد نال قدرا معتبرا من الدراسة والتعريف. ولكن المناطق الشرقية من البلاد رغم ما اشتهر من مقاومتها إلا أن الكثير من واقع تلك المقاومة ظل مجهولا لفترات طويلة وما يزال على ذات الحال. لكن وثائق الأرشيف الفرنسي التي أتيح الاطلاع عليها الآن مكنتنا من اكتشاف أوجه من المقاومة في مناطق الحوض لم تكن معروفة على الأقل في الوثائق الرسمية من كتب مدرسية ومؤلفات في التاريخ. إن إغفالنا لفترة القرن التاسع عشر إلى بداية العشرين هو في الواقع إهدار لمرحلة ما يمكن أن نسميه المقاومة الاستباقية للحيلولة دون السيطرة الفرنسية على المنطقة ولأعمال المقاومة المسلحة بأشكالها المختلفة.
لم يهتم الفرنسيون بمناطق موريتانيا الحالية إلا في فترة متأخرة نسبيا، فإلى العام 1850 لم يكن الأوربيون يعرفون عن الصحراء الافريقية الكبرى إلا ما يتعلق بأطرافها الشمالية. وفي عام 1900 كانوا قد عرفوا كل مناطق الصحراء تقريبا بفضل العمليات الاستكشافية التي قاموا بها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. 
والظاهر أن فرنسا كانت قد قررت احتلال مناطق الحوض من زمن بعيد ولكن منعها جهلها لسكان المنطقة من تنفيذ مشروعها فكانت ترسل المستكشفين لذلك الغرض. ومن أمثلة التقارير التي كتبها المستكشفون الفرنسيون الكتاب الذي عنوانه   Les maures de l'Afrique occidentale Françaiseوقد ألفه الإداري الفرنسي Georges Poulet  وكان قد عين واليا لمستعمرة السنغال ما بين 1905 و1907. وقد كتب Poulet تقارير متعددة ما بين 1896 و 1902 مبْنية على أعمال استخباراتية معمقة قام بها  في عين المكان وكان الهدف منها حسب Poulet نفسه معرفة المزيد عن مجتمع البيظان الذي باتت الأعمال الاستخباراتية عنه محدودة القيمة حتى العام 1896، بسبب اهتمامها بجانب واحد وهو ما تعلق بالمبادلات التجارية على ضفتي النهر. 
هذا ومن الجدير بالذكر أن Xavier COPPOLANI   فيما كان يحضر خطته لاحتلال البلاد كان قد استفاد من هذه التقارير التي كتبها Poulet عن مجتمع البيظان وخاصة في منطقة الحوض التي زارها هو نفسه عام 1899 لاستكمال المعلومات الاستكشافية عن مجتمع الحوض ولدراسة إمكانية بسط النفوذ على تلك المنطقة. ومن المحتمل أن يكون COPPOLANI و Poulet  قد التقيا في "سانت لويس" بالسنغال. 
ولاشك أن التقسيم الإداري الذي اعتمدته الإدارة الاستعمارية الفرنسية والقاضي بضم مناطق الحوض إلى السودان الغربي والذي استمر إلى منتصف الأربعينات من القرن العشرين قد أسهم في تشتت الوثائق بين باماكو وداكار وسانت لويس.
وقد ورد في الارشيف الفرنسي أمثلة كثيرة من عمليات المقاومة التي نظمها قادة المجتمع في أقصى مناطق الحوض بمحاذات حدود بلاد السودان أو دولة مالي الحالية. وكانت تلك العمليات العسكرية عبارة عن حرب استباقية في تلك المناطق المحاذية لنفوذ الفرنسيين في تينبكتو   Tombouctouو نيور Nioro وغمبو Gombou وسوكولو  Sokoloونمبالا  Nampala وسمبي    Sompiو رأس الماء  Ras-elma ونييري  Néré وهلم جرا...
ومن الوقائع التي احتفظ لنا بها الأرشيف الفرنسي نذكر تلك المقاومة شبه المنسية التي خاضها سكان المناطق في أقصى الشرق الموريتاني في حيز جغرافي يمتد من تنبكتو إلى ولاته ومن أروان إلى  سيكو تزامنا مع فترة أحد قادة المجتمع في مناطق الحوض وأكثرهم مراسا بشؤون الحرب النفسية والعسكرية ألا وهو الشيخ بن سيدي بن هنون (ت 1315 / 1898).  
 ومن خلال قراءة متأنية للوثائق يتضح أن الاستعمار الفرنسي واجه مقاومة شرسة يقودها الشيخ بن سيدي بن هنون الذي استبق الاحداث باحتلال تنبكتو بعد أن اجتمع حوله تحالف يضم مجموعات قبلية من شتى الأصول والفئات من الطوارق الزنوج والقبائل العربية.   لقد أوردت الوثائق المتوفرة عددا معتبرا من عمليات المقاومة التي تم تنفيذها بكثير من الحنكة السياسية والعسكرية، وهو ما أربك المحتل الفرنسي وأفقده القدرة على المبادرة وجعل الخلاف يدب بين قادته العسكريين والإداريين حول السياسة التي يجب انتهاجها حيال مركز باسيكنو الذي تحول إلى بؤرة للمقاومة تنطلق منها العمليات العسكرية والقرارات السياسية. ولكم أن تتصوروا أن الخلاف بين القادة الفرنسيين بلغ  درجة جعلت أحد الولاة  يستقيل من منصبه بسبب عجزهم عن اتخاذ موقف موحد وحازم من الشيخ بن سيدي بن هنون. وبهذا الخصوص يقول Paul Marty في الفقرة التالية من كتابه: Etudes sur l’islam et les tribus du soudan مصورا حالة العجز والفوضى التي ذكرت آنفا: "من الضروري القول إن خلافاتنا أخرت طويلا حل هذه المشكلة (المقاومة في باسيكنو). فبينما كنا نبذل جهودا حثيثة لجعل الشيخ بن سيدي (ابن هنون) يقبل التعامل معنا كانت قضية انقياده تطرح للسلطات العليا على أنها مستحيلة ...".
ورغم أن الإدارة الإستعمارية الفرنسية استطاعت في نهاية المطاف أن تحتل الأراضي الموريتانية الحالية ويستقر بها الحال بها إلا أنها ظلت تتوجس من موقف المجتمع منها ولا ترى إطلاقا إمكانية قبول تلك القبائل للإحتلال الفرنسي، ذلك ما يمكن أن نستشفه من كلام Alfred Lechatelier  في كتابه  (L'islam en Afrique de l'ouest) الصادر عام  1899 حيث يقول: " إن غالبية محاولات التوغل في أراضيهم (موريتانيا الحالية) قد بائت بالفشل أو كانت، على الأقل، تمثل مخاطرة كبيرة لأصحابها. وقد تمكنتْ مهمات استكشافية فيما بعد من الوصول بسهولة إلى آدرار. بل استطاع كبولاني أن يصل إلى تنبكت وأروان.(...) لكن يجب ألا نبالغ في هذه النتائج وفي مفعولها على المدى الطويل. فقد سهلتها الظروف وهي عبارة عن جهود فردية. والواقع أنه سواء تعلق الأمر بشمال أو جنوب الصحراء فإن القبائل الرحل تنزع كلها إلى معاداتنا. "
وأخيرا فقد صار من اللازم على ضوء ما استجد من وثائق ومعلومات أن نراجع تاريخ المقاومة لأن الكثير من وقائع تلك المقاومة الباسلة مازال مجهولا للجمهور ولا يعرفه إلا قلة من المهتمين بتاريخ المجتمع الموريتاني. ولا شكل أن ذلك كله إنما يدخل في مجال الوفاء والإنصاف لأبطال المقاومة الوطنية وقد قال الشاعر: وقبيح بنا وإن تقادم العهد هوان الآباء والأجداد. 

9. نوفمبر 2022 - 17:25

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا