توابل "حرب أهلية" أم تباشير "وعي الخلاص" / الولي ولد سيدي هيبه

altبالنظر إلى تاريخها العربي الإفريقي المذبذب، و حاضرها المتسم بالغليان داخل دوامة تشكل فيها "الغوغائية" السياسية و الحقوقية و الثقافية المسلك المتبع الأبرز على خلفية إرادة سلبية مشتركة لكل النخب،

و بالنظر إلى مستقبلها القلق تبدو موريتانيا بحق بلدا معقدا من عديد الأوجه في بعديها الاجتماعي و السياسي.

على المستوى الاجتماعي تشهد المطالبات ذات الطابع ألاثني و الثقافي و الطبقي و العقدي تزايدا متصاعدا -  و إن كان بعضها مبررا -  في ظل النظام الدولي الجديد المطبوع من جهة بختم الحقوق العالمية للإنسان و من جهة أخرى بسمة الديمقراطية التي باتت مطلبا شرعيا مشتركا لكل أمم العالم  و شرطا لا مناص منه لقيام دول القانون الحديثة المستقرة و الدائمة إن عاجلا أم آجلا.

أو ليس محيرا أن يظل في القرن الواحد و العشرين أسلوب ينتمي بكل تجلياته لـحقبة موغلة في القدم قائما باستمرار و لا ينفك يكرس في موريتانيا المضطربة مفاهيم تبقي على الفوقية و الريادة لبعض الطبقات على أخرى معتمدة في سرمدية مطلقة على أساس اعتبارات مضللة  و ومجحفة. الأمر الذي ما زال قائما في وضع اجتماعي مختل و يجد ترجمته على أرض الواقع في "المسلكيات" و التصرفات و الواقع المعيش و في كل  أوجه المعطيين الاجتماعي و النفسي... ما يجعل بالنتيجة حضور أصحاب هذه "الريادة الموروثة حضورا فعليا سرمديا في دوائر الدولة على مستوى "الحكامة"  و "متشعباتها" سواء ما تعلق بالديناميكية الاقتصادية أو بالخط التسييري للأموال العمومية و مقدرات البلاد.                 

و على الرغم من رفع اليد المفاجئ الذي حصل في العام 2008 عن "ممنوع التعرض" للفساد المعشش في كل أوصال الدولة و الإقدام بشجاعة نادرة يومها على محاسبة بعض ورموزه فإن أصحاب هذه الظاهرة و متعاطي كؤوسها المترعة بخمرة النهب ما زالوا يعيثون كما كان يفعل بعض من ذويهم الذين سبق أن أوصلوهم و أندادهم و أشباههم من حلفاء في دائرة تلك المفاهيم الرجعية أيام عز سطوتهم قبل الاستعمار و أيام الاحتلال و أثناء دولة الاستقلال. و بهذا يكون المفسدون و على غير "خطى بناء المنهاج الصحيح لسيادة دولة القانون" يمسكون في دوامة خيالية مضرة بزمام مصير أمة متنوعة الأعراق و الشرائح دون مجرد الانتباه إلى ما اكتسبه من وعي أصبحت معه توجه أصابع الاتهام و تطالب باسترجاع الحقوق و بقيام دولة القانون للجميع... و إن هذا التناقض الذي هو من صميم الواقع المعيش في عين إعصار قرن أضحى:

- كل شيء فيه يعلم ،

- و كل شيء فيه يدرك ،

- و كل شيء فيه يقوم و يصحح...

ما يجعل الأمور قابلة للانفجار إذا لم تحدث صحوة و تشحذ الإرادات المجردة من الاطماع و توجه العناية بحكمة لاستدراك الأمور و تلافي الخطر الذي بات يفقأ العيون.

و يفرض هذا الأمر من باب الاستنتاج المنطقي، على السلطات العمومية و التشكيلات السياسية باختلاف مشاربها الفكرية و المجتمع المدني بمختلف اهتماماته و تشعباته أن يتوجهوا بأسرع ما يستطيعون للعمل على كبح جماح هذه الوضعية المنذرة بما لا تحمد عقباه بعقول راجحة و عازمة على المضي إلى التهدئة التي تفتح باب المصالحة الوطنية... و هو الأمر الذي إن تعثر يضع البلاد حين لا مناص على عتبة انفجار يحرق بفعل تراكمات "أسباب التصادم" أخضر ويابس هذا البلد ليكون الخاسران في النهاية هو وحدهما الوطن و أهله.

ما الذي يجب إذا فعله لتجنب هذا الأمر اللهم أن يقوم الجميع ممن تقع على عواتقهم مسؤولية انتشال البلد بتصحيح وضع مختل مطلقا و يتسم بالمتناقضات المخالفة لأصول و ثوابت القوانين الحديثة، مسلحين لأجل ذلك بإرادة مبتكرة و فطنة لا تلينها المحن و إيجاد وضع لا تكون فيه المواطنة مجرد خيار و لكن حقيقة يحسها كل فرد حقا و غاية مطلقين.

إن توجه الدولة الموحدة إلى خيار الديمقراطية الحوارية المثالية يجب أن يحصل بخطى متسارعة في أجواء يكون فيها خيار الشعب أمرا واقعا أفقيا و عموديا في كل عمل سياسي يجري على أي مستوى كان، في انسجام تام مع الوجه الجديد لواقع العالم، ما يعني و بمنطق آخر أن استحكام الديمقراطية في العقول و من ثم تطبيقها عمليا على أرض الواقع و من خلال الأعمال المصيرية الكبرى هما العاملان اللذان سيؤسسان حتما إن تحققا للمرتكزات الضرورية لسلطة دولة القانون خلال هذا المنعطف الفاصل من تاريخ البلد.

و لكن كيف يمكن لهذا الأمر أن يتحقق و سكان البلد يعيشون على وقع توجه قلة قليلة منهم إلى الثراء الفاحش المضطرد لها اليد الطولى فى كل شيء على حساب أغلبية ساحقة من المواطنين مسحوقين تحت وطأة الفقر و الحرمان و التهميش المنظم في غياب العدالة الاجتماعية و على خلفية عقد الطبقية و التراتبية السلبية.

وسط لا مبالاة بادية و بسفاهة استثنائية تقوم هذه الأقلية في كل يوم تشرق شمسه باستعراض مظاهر عالية من الأبهة المفرطة التي تأخذ أشكالها في:

ـ سيل عارم من آخر صيحات السيارات يجلس مقابل مقودها على مقاعد وثيرة شبان و شابات حديثي السن و نسوة و رجال خاليي البال؛

ـ و في منازل أشبه ما تكون بالقصور و القلاع؛

ـ  و في امتلاك المتاجر الحديثة على شوارع الأحياء القليلة الراقية؛

ـ و في المدارس الخصوصية من الدرجة الأولى تدرس وفق مناهج غربية عالية المستوى التعليمي حيث يتلقى أولاد هذه الطبقة البورجوازية ـ التي تشكلت بطرق ضمنها لأصحابها نظام أشياء غير عادل - تعليما نخبويا على حساب أبناء عموم الشعب الذي يتلقى تدريسا ضعيفا إن لم يكن "مجهلا"

و الغريب اللافت أن هذه الهوة السحيقة تزداد اتساعا في غياب تام لأية طبقة وسطى...شرخ عميق في نسيج اجتماعي  من الهشاشة بمكان نتيجة للمستوى المتدني من المدنية و الجهل الشبه المطلق بالمبادئ المنظمة و الحافظة للوئام الاجتماعي و قيم الجمهورية. و لا يضاهي جسامة هذه الوضعية إلا ما يكون من فداحة المأساة التي يمكن أن تتمخض عنها عند أول انحراف غير متوقع.

هنا و بكل بداهة يمكن الاطلاع على الحقيقة المرة للشرائح المحرومة المنحدرة من الطبقات الواقعة في أسفل درجات تراتبية المجتمع و منها بشكل أكثر بروزا شريحة "لحراطين".

سببان على الأقل من بين أسباب عديدة أخرى كفيلان بدفع الجهود المطلوبة و بشكل ملح لتفادي أي انزلاق من تلك الانزلاقات التي تبدو وشيكة و من أجل إعطاء البلد فرصا جديدة في ظل ما يعاني من جراء:

- أزمة سياسية دوافع كل أطرافها منصبة فقط على السلطة غاية و نهاية؛

- أزمة اجتماعية تؤججها و تغذيها جهات تحسب على مجال حقوق الإنسان و يتسم خطاب بعضها بالحدة و التحريض الضمني المفضوح على العنف؛

- أزمة ذات طابع أثني لا تزال تفاعلاتها تنبض بالحياة تحت رماد مظاهر الهدوء التي أعقبت تسوية ملف إرث إنساني ثقيل برعاية المفوضية العليا للاجئين الأممية تلهبها هي الأخرى من حين لآخر جهات "انفصالية الخطاب" من جهة، وعلى الرغم من الملامح البادية لانسجام اجتماعي قائم بحجة و تحت غطاء المعتقد الإسلامي المشترك و إن كانت هشاشته لا تكاد تخفى برغم الستار، من جهة أخرى؛

- أزمة اقتصادية تلهبها و تبقي على ديمومتها حرب الأقطاب التي لا يهدأ قرع طبولها و هي التي تستولي على كل شيء و لا تقتسم شيئا و تلك الأقطاب التي تحرق في المقابل كل شيء دون اكتراث خلال ردود أفعالها التلقائية التي لا تقيدها أية ضوابط... و بين نيران  هذين القطبين تصطلي جموع الشعب الضعيف الذي تسحقه قبلا و تنخر جسمه صراعات سفسطية و عقيمة تنتمي لعصور التخلف و الجهل.

و ليست أزمة "حمالي الميناء بكل أوجه قراءاتها و تأويلاتها و مدلولاتها إلا مثالا صارخا و إثباتا أولا إن كان لا بد من إثبات على فداحة هذه الوضعية المتسمة بالتناقضات.

من جهة  يقف هؤلاء "المفرغين" للحاويات و "الحمالين" لمحتوياتها على أكتافهم و بوسائل بدائية لا تغفل لأدائها بعضا من طاقة الأجسام إلى الشاحنات الناقلة و الموزعة و هم لا شك بهذا الدور يعتبرون عاملا لا استغناء عنه لضخ هذه المستوردات في رئة و أوصال الاقتصاد.

و في مقابلهم يقف أيضا رجال الأعمال و هم عامل آخر مواز لا غنى عنه مطلقا يؤمن للأسواق حاجاتها الضرورية لصيرورة و ديناميكية الاقتصاد و لتلبية متطلبات المواطنين... و هذان العاملان مطالبان في معادلة معلومة القواسم أن يتعاونا في تناغم و انسجام و أن يعملا على ديمومة أسباب وجودهما... و لا شك أنه في ذلك يجب أن تبقى و تصان الحقوق و الواجبات بعيدا عن كل التجاذبات... و إذ لا يجب بالطبع أن يسود في ذلك منطق القوة بأي شكل من الإشكال و لا تحت أي ظرف من الظروف فإنه لا يجب كذلك اللعب بمكر و إفراط تحت أي عنوان أو مسوغ، على  الأوتار الحساسة للحقوق المهدورة.

لا ريب أيضا أن موريتانيا التي ما زالت بعيدا كل البعد عن إماطة الأذى في طريق بناء دولة القانون مطالبة بالالتحام سريعا بالمفهوم الجديد لـبناء "الدول الحديثة من خلال:

ـ نخبه السياسية على الرغم مما تعانيه من ضعف و ارتباك و تناقض في النوايا و العمل،

ـ و نخبها المثقفة على الرغم من خور العزائم و الانغماس في الأوجه المسكرة من الثقافة المهدهدة على حساب أوجهها المهذبة و الموجهة و المحفزة على بناء صرح البلد و ضمان مكانته اللائقة في مصاف الأمم المتقدمة و المزدهرة؛

ـ و مجتمعها المدني الضعيف الأداء و النفعي التوجه،

ـ و إعلامها المنقسم على ذاته و الفاقد لروح الابتكار و التجديد من جراء معاناته الكبيرة و نواقصه الجمة،

...عسي و بإرادة جديدة يلهم الجميع إياها الوازع الوطني أن تتمكن  البلاد من إبصار بؤرة الضوء في طرف النفق و أن تحظى نتيجة لذلك على ظرف استثنائي يجعلها تمسك بالأسباب الوجيهة للبقاء و يستطيع كل مواطن فيها ترديد قول "اسبنسر": "أنا بشر لا شيء من ما هو إنساني بغريب عني..." و يضيف بفخر و اعتزاز "...في بلدي موريتانيا"   

4. مايو 2013 - 10:50

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا