قراء في كتاب "أزمة الفقه السياسي في القرن الـ21" / إخليهن ولد الرجل

altصدر حديثا عن "المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الاستراتيجية" كتاب هام في الفقه السياسي الإسلامي، للباحث محمد المهدي ولد محمد البشير حمل عنوان: "أزمة الفقه السياسي في القرن الـ21...إشكالية الطاعة في عصر الثورة". وهو أول كتاب من نوعه يصدر في هذا القطر حسب علمي.

الكتاب يتألف من مقدمة وخمسة مباحث وخاتمة إضافة إلى تقديم لمدير المركز الدكتور محمد محمود ولد الصديق.

في المقدمة يلمح الكاتب إلى أن رسالة الإسلام جاءت "ثورة شاملة" لتحرير البشرية من كل القيود، وكل أساليب الطغيان والاستبداد سواء كانت مادية أو روحية... وأن هذا المنهج التحريري هو الذي ظل يحكم المسلمين إلى أن بدأت القطيعة مع نموذج "الدولة الراشدة" مع بداية العهد الأموي، وتحولت الخلافة بعد ذلك إلى نموذج الملك العاض.

وفي المبحث الأول من الكتاب يحاول الباحث من خلال استنطاقه لنصوص الوحي وتتبعه لما كتبه علماء الفقه السياسي الإسلامي (قديما وحديثا) أن يكشف منطلقات "النظرية السياسية الإسلامية" وخصائصها، حيث يحدد تلك المنطلقات في عشر منطلقات أساسية، تدور أساسا حول ثنائية "وحدانية الخالق المعبود"  و"كرامة الإنسان الخليفة"، أما الخصائص فيحددها الكاتب في أربعة عشر خصيصة تدور حول ثنائية "سيادة الشرع" و"سلطان الأمة".

ويتناول الكاتب في المبحث الثاني من الكتاب "أزمة الفقه السياسي الإسلامي"، حيث يرى أن الفقه السياسي الإسلامي يعاني منذ قرون من أزمة منهجية خانقة، تتجلى ملامحها في عجز الفقهاء عن صياغة "نظرية إسلامية واضحة المعالم في مجال السياسة والحكم"، إضافة إلى خلطهم بين المبادئ والتطبيق، وانشغالهم بتبرير الواقع والدفاع عن انحرافاته بدل التنظير لتغييره، وذلك ما أوقعهم في جملة من الأخطاء المنهجية الكبرى، من أهمها تسويغهم لحكم المتغلب وإضفاء الشرعية عليه، وإسقاطهم لحق الأمة في اختيار من يحكمها بإفتائهم بانعقاد البيعة برضى الواحد والاثنين وقياسهم البيعة على عقود الزواج وعقود البيع، ومنها جعلهم الشورى "معلمة غير ملزمة" وغير ذلك من الأخطاء التي انحرفت بالفقه السياسي الإسلامي عن أصوله النظرية حتى انقلب إلى نقيضها، وأصبح ملكا جبريا عاضا.

وفي المبحث الثالث يتناول الكاتب "فكرة الدولة ومراحل تطورها"، فيرصد مراحل نمو الحس الإنساني بضرورة التعاون والاجتماع، وتطور ذلك الحس في شقه العملي من الأسرة إلى نظام القبيلة إلى التقري، وهكذا حتى وصل أخيرا إلى فكرة الدولة.

ثم يناقش الكاتب - خلال هذا المبحث أيضا – فكرة موقف الجماهير من الحاكم وتصورها له، وتطور ذلك الموقف من نظريتي التأليه والحق الإلهي إلى نظرية العقد الاجتماعي.

وفي المبحث الرابع من الكتاب يناقش الباحث تاريخ تطبيق "نظرية الحكم الإسلامي"(دولة الخلافة)، التي بلغ تطبيقها نموذجه المثالي في فترة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخلفاءه الأربعة رضي الله عنهم، ثم بدأ الانحراف عن دولة الخلافة الراشدة إلى دولة الأمر الواقع يوم أن أعلن الحسن رضي الله عنه تنازله عن الخلافة لمعاوية حقنا لدماء المسلمين وجمعا لكلمتهم، ورضي المسلمون بذلك، وبايعوا معاوية لا رغبة فيه بل رضوخا للواقع، وكهذا بدأت نظرية جديدة تصاغ وفق مقتضيات الواقع لا استنادا على نصوص الوحي وتطبيقاته التي تجسدت في منهج النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاءه الراشدين.

وفي المبحث الخامس، وهو "مبحث الكتاب الرئيسي"، يناقش الباحث "إشكالية الطاعة في عصر الثورة"، فيورد أدلة الفقهاء الذي ألزموا بطاعة "الإمام برا كان أو فاجرا" ويرد عليها بمنطق علمي رصين وأدلة نقلية وعقلية مفحمة، ويور كلام ابن تيمية في أن الطاعة للشريعة وليست لأحد في حد ذاته، وإنما يطاع الحاكم إذا أطاع الله، و"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".

ثم يناقش الباحث مسألة الخروج على الحاكم، ومتى تجب؟ ومتى تحرم؟ فيبن أن الحاكم إذا كان قد وصل إلى الحكم عن طريق بيعة شرعية من طرف الأمة فلا يجوز للأفراد أن يخرجوا عليه، أما إذا خرج عليه غالبية من الجماهير فذلك يعتبر من باب الخلع وحل البيعة وهذا حق للأمة كفلته لها نصوص الشرع.. إما إذا كان الحاكم غير شرعي وإنما اغتصب الحكم وفرض نفسه بالقوة فإن الخروج عليه وخلعه إذا توفرت الإمكانات والقدرة يصبح في حكم الوجوب.

وخلال ذلك يورد الباحث نقولا نفيسة، وآراء لعدد كبير من العلماء الأجلاء عكس الآراء الشائعة والمتداولة التي توجب الطاعة المطلقة للحاكم وتحرم الخروج عليه ولو كان ظالما وفاسقا.

خلاصة وتقويم:

الكتاب إضافة جيدة للمكتبة الإسلامية ولبنة مهمة من البنات "الفقه السياسي الإسلامي"، ومكتوب بأسوب رصين ومنهجية واضحة، وقد أثار أفكارا كبيرة ومهمة مع جرأة في الطرح ودقة في التوثيق واعتماد على المراجع الموثوقة، ومع ذلك فإنه لا يسلم من بعض الملاحظات، أهمها:

- أن الكاتب لم يعتن كثيرا بصياغة عناوينه، وخصوصا العناوين الفرعية، فيأتي أحيانا بالعنوان طويلا وهو ممكن الاختصار مثل عنوان (عدم التفريق بين المبادئ الإسلامية وبين التطبيق التاريخي لها)، ويأتي به أحيانا أخرى غير دال على المضمون مثل (الوحدة الإنسانية) وهو يقصد الأصل الإنساني الواحد أو المساواة.

- حينما يتحدث الباحث عن الفقه السلطاني، وعن ملامح القصور فيه يتجاوز في نقده حدَّ العدل، حتى ليكاد يجرد علماء فضلاء من الفضائل، ويصور مؤلفاتهم وكأنها كوارث محضة، وملهاة حقيقية! دون أن يلمح إلى ما تضمنته من تجديدات ومن جوانب إيجابية.

- في حديثه عن أزمة الفقه السلطاني انتقى الكاتب بعض الاجتهادات من بعض المؤلفات وبنى عليها أحكاما كبرى دون أن يشير إلى ما يقابلها من اجتهادات تجديدية وردت في كتب ابن تيمية وابن القيم والجويني وغيرهم!! وكأن الفقه السياسي قد اقتصر على مؤلفات الماوردي والفراء وابن جماعة!

وإن كان الباحث قد ذكر تلك الاجتهادات التجديدية في المبحثين الرابع والخامس من الكتاب، إلا أنه كان من الأحسن أن يشير إليها في موضع نقده للفقه السلطاني حتى يكون النقد موضوعيا ومتوازنا.

- كان الأولى بالكاتب أن يحاكم الفقهاء إلى مفاهيم عصورهم وإلى السائد فيها من الثقافة بدل أن يحاكمهم إلى مفاهيم القرن الحادي والعشرين وثقافته..!! وقد غفل الكاتب عن أن المفاهيم السياسية المتداولة اليوم ليست وليدة اللحظة وإنما هي نتاج تراكمات تجربة كبيرة ومعاناة طويلة خاضتها البشرية عبر عشرات القرون، وقد ظلت إلى وقت قريب غير موجودة ولا متداولة.. فلماذا نطالب فقها القرن الرابع الهجري بها؟!! ونحاكمهم إليها؟!!

- يكثر الكاتب من اصدار أحكام كبيرة في قضايا كبرى تحتاج إلى بحث أعمق وأشمل واستقراء أوسع مما هو حاصل في الكتاب، مثل ادعاءه بأن "الفقه السلطاني لم يصغ نظرية سياسية واضحة المعالم" وبأنه مناف لروح العصر.

- أخطأ الكاتب حين قال: (إن مصطلح "ولي الأمر" مصطلح دخيل على الإسلام وفلسفته التشريعية في السياسة، ولم يرد في القرآن له ذكر، ولم تشر إليه السنة أي إشارة..). وقد غفل الكاتب عن الآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (سورة النساء/59) وعن الأحاديث الكثيرة التي ورد فيها هذا المصطلح، مثل حديث "من ولي من أمر المسلمين شيئا.."... وإن كان قد حاول أن يبرر ذلك في المبحث الخامس من الكتاب بقوله إن "أولي الأمر" مفردها "ذي الأمر" أما "ولي الأمر" فإن جمعها "أولياء الأمور" وليس "أولي الأمر". ومن الواضح أن هذا التبرير فيه تكلف، وحتى لو سلمنا بصحته فإن ذلك لا ينفي إسلامية المصطلح، فقد تداوله عامة الفقهاء، ولم نسمع أن أحد قدح فيه أو أن أمة أخرى استعملته.

- اعتمد الكاتب في معظم أفكاره على الدكتور فتحي الدريني والدكتور محمد ضياء الدين الريس لدرجة أنك لا تكاد تقلب صفحتين أو ثلاث من البحث إلا وتجد نقلا عن واحد منهما وأحيانا يكون مطولا.

أحيانا يكون النقل ليس ذا قيمة علمية تبرر وجوده ولا أجد لذلك تفسيرا سوى أنه إما لملء الفراغ وإما لتكثير المراجع، مثل ما نقله في الصفحة 65 عن حاكم المطيري، وما نقله في الصفحة 125 عن عبد الرحمن الكوكبي.

20. يونيو 2013 - 21:36

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا