الغرب والإسلام الفولكلوري / المهدي بن أحمد طالب

لئن كان سيد قطب قد تكلم سنة 1952م عن الإسلام الآمريكاني وأحدث هذا المصطلح حينها ضجة بين أوساط الحركة الإسلامية ’’ بين الرافض والمتقبل لهذه الفكرة ، بين هذا وذاك وتناغم الأحداث الفكرية وتضاربها فإني أستحدث مفهوما جديدا في سنة 2013م وهو الإسلام الفولكلوري .

لا يختلف هذا المفهوم كثيرا عن مفهوم سيد قطب من حيث المضمون ، إلا أن الفترة الزمنية التي تكلم فيها سيد قطب كانت فترة قاتمة لم يتبين فيها الخيط الأبيض ’’ من حيث علاقة الغرب بالإسلام (السياسي والتقليدي ) والتي تشكلت حديثا بصورة أكثر جلاء ووضوحا ، بينما نجد الإسلام السلفي (الأصولي ) يقف على مفترق طُرق ، إمّا أن ينجرَّ إلى التيار الجارف ـ الإسلام الآمريكاني بشقيه التقليدي والسياسي ـ الذي لا يجد غضاضة في التعامل مع الغرب (الداعم لإسرائيل) أو أن يبقى متشبثا بالماضي عاجزا عن أن يتلاءم مع الواقع وتحدياته ’’ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ... وحتى مع ذاته .

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الإسلام بمفهوم الأمة أكثر ضبابية ، ذلك أن الإسلام في الغرب يتطلع إلى واقع أفضل غير الواقع العربي المنقسم على ذاته ’’ واقع لا يخرجه عن الإسلام بالمفهوم الصحيح وينسجم مع تحديات الواقع بعد 11من سبتمبر2001م  ، وينطبق هذا كذلك على مسلمي أندونسيا  وماليزيا ودول شبه القارة الهندية ، بينما نجد العالم العربي الذي يمثل منطلق الإسلام إلى مناحي العالم ـ بمختلف تياراته الإسلامية ـ يسعى إلى واقع أكثر استقلالية وأكثر تطلعا نحو المستقبل .

إن هذا الواقع الضبابي الذي لبّدت غيومه العالم جعلت مراكز الأبحاث الغربية  تستنفر كل طاقاتها من أجل إيجاد إسلام ينسجم مع تحديات العصر ـ السياسية والاقتصادية ـ بمنظور غربي لا يكدّر صفو العالم الإسلامي من الناحية السياسية والاجتماعية فكان هذا الإسلام هو الإسلام الفولكلوري .

الإسلام الفولكلوري هو الإسلام الشكلي الذي يرتكز على الظواهر الشكلية في السياسة والاقتصاد دون أن يكون له وجود بالمعنى الحقيقي والفعلي ، وقد بدأت بوادر هذا الفكر أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتجلى في عهد الغنوشي الذي قال حين استولى على حكم تونس بثورة شعبية ما جئنا لنطبق الإسلام على الشعب التونسي ’’ يكفينا أن الإسلام أحد مصادر الحكم في تونس ، وفي مصر بدل أن يرسوا دعائم العدالة ومبادئ المساواة بين أطياف الشعب المصري بدئوا في الترويج لفكرة الدولة المدنية والدولة الدينية من أجل تقزيم مفهوم الدولة الإسلامية والتركيز على شعارات براقة جوفاء لا حقيقة لها في أرض الواقع ’’ الله غايتنا ، والقرآن دستورنا ... إن هذا الجيل الفولكلوري  الذي يدّعي الوسطية والتوسط والعقلانية ويدّعي فهما أكثر دقة للإسلام ومتطلبات العصر ، أكثر واقعية وتنويرا تناسى أنه بواقعيته وعقلانيته ووسطيته  أنسلخ من الإسلام الذي كان يدعوا إليه حسن البنا والهضيبي ومحمد الغزالي وسيد قطب ...

قال محمد الغزالي في كتابه الإسلام في وجه الزحف الأحمر : أفلح المستعمر الغربي في خلق أجيال تجهل دينها، لكننا لا ننجرف مع هذا الجهل وسنبقى على النهج المشرق الذي أفدناه من ثقافتنا الإسلامية الصحيحة ، نقرر أن الإسلام إيمان ونظام أو ـ بتعبير الحداثيين ـ دين ودولة .

ويقول سيد قطب متهجما على هؤلاء الفولكلوريين في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام : لن يستقيم هذا الدين في عزلة عن المجتمع ، ولن يكون أهله مسلمين ، وهم لا يحكّمونه في نظامهم الاجتماعي والقانوني والمالي ، ولن يكون مجتمعهم إسلاميا ، وأحكام الإسلام وشرائعه منفية من قوانينهم ونظمهم  ...

ويقول حسن الهضيبي في كتابه " نحن دعاة لا قضاة "  وأحكام الشريعة هي التي تأمرنا بما حددته لنا من أحكام متعلقة بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتعيّن شكل ونظام الدولة والحريات التي تكفل للأفراد والجماعات، وهي التي تأمرنا باتباع وتنفيذ ما حدّدته من شرائع تحكم الحياة الاجتماعية والاقتصادية وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، إلى غير ذلك مما يشمل حياة الأمة والأفراد في مختلف نواحيها وهي تربط بين ذلك جميعًا وبين حياة الأمة وأفرادها وبين المصير في الآخرة، وهي التي تؤكد أن ذلك كله مما أمرت به، إنما يجب اعتقاده والعمل به وتحقيقه طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره وخشوعًا وانكسارًا له، وابتغاء وجهه تعالى، فلا يقبل أي عمل مهما عاد بالنفع في الدنيا على صاحبه وعلى الناس إلا إذا صدر ممن يدين لله عز وجل بدين الحق وابتغاء وجه ربه الأعلى .

نستنتج من أقوال قيادات الإخوان في مرحلة من مراحل ازدهار الحركة  أن الجماعة كانت تحمل مشروع أمة وهوية حضارة ’’ كانت تؤمن بشمولية الإسلامية ومبدأ الولاء لأولياء الله والبراءة من أعداء الله ، كانت تعمل لعالمية الإسلام وضرورة استيعاب أحكامه الأقطار من طنجا إلى جاكرتا ،  لم تكن نظرتهم ضيقة الأفق والمفاهيم  تختزل القضية في أحزاب سياسية تحمل لافتات وشعارات فولكلورية .

كما أن هذه الفولكلورية وجدت صداها كذلك بشكل واسع بين الزوايا الصوفية التي تعتقد أن للشريعة ظواهر وبواطن وأن التكاليف الشرعية برمّتها أغلال وحين يصل المُريد إلى درجة العارفين تسقط عنه التكاليف وحينها يصل مرتبة اليقين .

أصدرت مؤسسة راند الأمريكية  بحثا أعدته Cheryl Benard تحت عنوان " الإسلام الديمقراطي المدني ، الموارد ، الاستراتيجيات ، الشركاء " بتاريخ 18/03/2004م ، تناولت فيه الباحثة جدوائية التعامل مع الإسلامي السياسي  وضرورة إقصاء الإسلام الأصولي والقضاء عليه .

قالت الباحثة : مما لا شك فيه أن الإسلام المعاصر يعيش حالة من التقلبات ، يسودها صراع داخلي وخارجي حول قيمه وهويته ومكانته في العالم، ينازع فيها المتطرفون من أجل فرض سيطرتهم الروحية والسياسية ، وقد كلّف هذا الصراع أثمانا باهظة إلى جانب تحمّل سائر العالم جزء من تبعاتها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، ولذلك فإن العالم الغربي يسعى بشكل حثيث إلى الوصول إلى إيجاد موطئ قدم له في هذا وفهمه ومحولة التأثير فيما سوف يتمخض عنه  .

إن وصول الغرب إلى مفهوم الإسلام الفولكلوري لا يمكن أن يحصل بهذه السهولة وقد أدرك الغرب هذه الحقيقة منذ قرون وكثّف جهوده إبان الحركات الاستكشافية التي مهّدت إلى إيجاد معلومات كافية عن العالم الإسلامي ’’ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، ومن خلالها توصل الغرب إلى بعض المعلومات التي جعلته يتنازل ـ صوريا ـ عن الاستعمار الاقتصادي إلى الاستعمار الفكري .

من جهة أخرى نجد الأمير شكيب أرسلان في كتابه " لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم  " يرجع سبب السيطرة الغربية  على العالم الإسلامي والتحكم فيه تحكما كليا هو عملاء الغرب القابعين خلف الكتب الصفراء ، وأنهم ساعدوا فرنسا بشكل جلي في احتلال الدول المغاربية بفتاويهم الشاذة وآرائهم الشيطانية التي كانت تمجّد فرنسا وأباطرة زعماء القبائل ... ثم يردف قائلا : ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين ، منهم من تجسس للأجانب على قومه ، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه ، ومنهم من سلّ لهم السيف في وجه قومه ، وأسال في خدمتهم دم قومه .

وبصورة أوضح يقول محمد عمارة في كتابه الغزو الفكري وهمٌ أم حقيقة ؟ الذين احتلوا أرضنا وهيمنوا على مقدراتنا قد صاغوا واقعنا صياغة جديدة ، وأزالوا منه البنى والمؤسسات القديمة ... لقد غيروا الواقع وجعلوه متغربا .

إن هؤلاء الأجانب مهّدوا لإقامة زواج سريّ بين الحكومات ـ المنتدبة لاستخلاف المستعمرـ وأصحاب الكتب الصفراء من أجل إقامة وكر فولكلوري يتكلم باسم الإسلام ويدافع عنه . لقد نجحت الخطط الغربية في أواخر القرن العشرين في إيجاد جيل من أصحاب الكتب صفراء، قابل للحديث حسب الطلب عن قضايا موانع الحمل ودخول المرأة في البرلمانات والحديث عن نواقض الوضوء وأحكام الحيض والنفاس ، غير قابل للحديث عن قضايا الاقتصاد الإسلامي والبنوك الربوية وأماكن الدعارة المقننة باسم الدين ، والعلاقات المشبوهة مع الغرب على حساب هوية الأمة وتاريخها وحضارتها .

إن جيل الكتب الصفراء هو جيل وعاظ السلاطين ـ حقا ـ كما يقول علي الوردي ، الذين يوغلون في أعراض البسطاء ويجلدونهم بالسياط وحين يتعلق الأمر بقضية أخلاقية وقع فيها الحاكم يدخلون في جحورهم ولا ينبسون ببنت كلمة .

إن هذا الجيل الفولكلوري الذي يتربع على مراكز الإفتاء والإرشاد هو الذي زرع في الأمة الوهن والدعة والراحة ’’ زرع فيها ثقافة قابلية الاستعمار كما يقول مالك بن نبي ، زرع فيها ثقافة الخنوع والاستماتة ، زرع فيها ثقافة الجمود الفقهي والتعصب المذهبي والإعجاب بالرأي ، زرع فيها ثقافة إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون ...

نجح الغرب كذلك في إيجاد جيل متحمس لا يفقه من الدين غير شعارات التكبير والتكفير والتهليل والتفجير’’ إن خطر هؤلاء على الإسلام أشدّ على الأمة من أصحاب الكتب الصفراء ، إذ أنهم جلبوا لها الويلات والخراب والدمار وألصقوا بالإسلام الرّهاب الفكري والإرهاب الدموي وفوبيا الإسلام...إنهم أصبحوا يعيشون خارج التغطية في الكهوف والجبال بفعل تصرفاتهم الشيطانية والرعناء وسفكهم لدماء المسلمين شرقا وغربا بحجج أوهى من بيت العنكبوت .

إن هذا الجيل من المسلمين صنعتهم آمريكا في معسكرات التدريب وآوتهم أيام حربها ضد الروس في أفغانستان ، وعدتهم بإقامة إمارة إسلامية هناك وحين وضعت الحرب أوزارها انقلبت عليهم ولفقت لهم التهم وقامت بفبركة مسلسل 11 من سبتمبر ، ثم قامت بتجفيف منابعهم وملأت منهم سجونها بحجة محاربة الإرهاب وتناست الولايات المتحدة إرهابها ضد اليابانيين أيام هيروشيما وناكازاكي ’’ تناست حروبها الاستعمارية ضد الفيتناميين ، تناست وقوفها وراء العهر الصهيوني في فلسطين ...  لا يحق للعاهرة أن تدّعي الشرف ، متى كنتم أيها الأوغاد مدافعون عن حقوق الإنسان ’’ هل تتذكرون إجرامكم في العراق وأفغانستان ؟؟؟

يقول الضابط الأمريكي روبرت دريفوس في كتاب " لعبة الشيطان " الصادر عن مركز دراسات الإسلام والغرب ، مبينا دور الولايات المتحدة الآمريكية في نشأة التطرف الإسلامي أن آمريكا وظفت الشارع الإسلامي بكل ما فيه من أطياف بُغية تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية ... مبرزا دورها في دعم الشيشانيين والأفغان ضد الاحتلال الروسي ، واستخدامها للإسلام السياسي ضد القوميات العربية في مصر ، وإحداثها لفوضى عارمة في الجزائر .

إن هذا الواقع الفولكلوري أفرز جيلا يشعر بضرورة مراجعة أفكار الحركات الإسلامية من أجل نقد الذات والتصالح معها ’’ من أجل إعادة صياغة سليمة لفهم النصوص الشرعية  وفق قواعد وأصول تتمسك بالأصل وتواكب العصر ، من أجل معرفة من نحن وماذا نريد ؟؟؟ من أجل معرفة عدونا الحقيقي والمشترك ، من أجل تجاوز كل العقبات الثانوية التي سخرها الغرب وشغلنا بها .

يقول عبد الله النفيسي في كتابه " الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية "  إن الحركة التي لا تريد أن تراجع أو تدرك أخطاء ماضيها من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة ، الحل يكمن في نقد الماضي ومراجعته وتحديد أخطائه من أجل تلافيها في الحاضر وتوظيف ذلك معرفيا وموضوعيا في المستقبل ....

إن طريق الإصلاح وتصحيح المفاهيم والمعتقدات والسلوكيات طويل وشاق ، لكن لا يوجد خيار غير هذا إلا خيار الجهل والتخلف والتبعية الفكرية لمحتل غصب أرضنا واستنزف خيراتنا  واستلب هويتنا الحضارية والثقافية وألصق بها كل جرائم التاريخ ...

 

المهدي بن أحمد طالب  / كاتب وباحث في الفكر الإسلامي [email protected] 

22. يونيو 2013 - 9:43

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا