دعوة إلى محاكمة (جيل الاستقلال).../ البشير ولد عبد الرزاق

altفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر دجمبر من عام 1961، قررت الأحزاب السياسية  الرئيسة في موريتانيا آنذاك، خلال حماقة وطنية عرفت وقتها ب(مؤتمر الوحدة)، حل نفسها بنفسها والاندماج في حزب واحد.

وبعد أربع سنوات من (الاثنين الأسود) هذا، سيكون عام 1965 (عام الرمادة) الدستورية بامتياز، حيث ستكتمل خيوط تلك (المؤامرة الوطنية الرديئة)، من خلال تعديلات دستورية، سيكون من أهم مخرجاتها، مادة دخيلة حملت الرقم (9)، ونصت بوقاحة منقطعة النظير، على أن (حزب الشعب) هو ﺣﺰب اﻟﺪوﻟﺔ، وهو وحده الذي يمثل اﻹرادة اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ.

ورغم كل هذه الفضائح المتلاحقة والمدوية، ما زال يراد لنا حتى اليوم، أن نبتلع الطعم وأن نقتنع كليا بأن مأساة الديمقراطية الموريتانية، إنما بدأت ذات صباح رطب وحار، من شهر يوليو من عام  1978، مع أن كل القرائن والأدلة، تشير إلا أننا شرعنا في ارتكاب حماقاتنا السياسية قبل هذا التاريخ بوقت طويل. 

سيقول لك الذين في قلوبهم شغف ب(الزمن المنصرف)، إنه لم يكن أمام الراحل المختار ولد داداه والذين معه، من خيار آخر، سوى نظام الحزب الواحد، الذي شكل وقتها رياضة قومية، على مستوى القارة السمراء... لا تسمع لقولهم.

فالواقع أن الرئيس ولد داداه والذين عاصروه وجدوا أنفسهم أمام خيارين سياسيين اثنين:

أولهما مثلته الجارة القريبة السنغال، حيث أصر مثقف وشاعر من (قبائل السيرير)، مسكون بحب السمرة ولغة (موليير)، يدعى ليوبولد سيدار سنغور، على الإبقاء على التعددية السياسية في بلاده كما هي رغم هناتها.

وأما الخيار الثاني فمثلته الجارة البعيدة غينيا كوناكري، حيث رمت الأقدار بساعي بريد سابق، يدعى أحمد سيكو توري إلى الواجهة، فعض على السلطة بالنواجذ، وأقام نظام  (الحزب الواحد)، الذي عد على الناس أنفاسهم، وتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم. حسم رعيلنا الأول خياره السياسي، وفضل ساعي البريد على المثقف والشاعر، فكان من الطبيعي جدا، أن تكون تلك بداية  موجه من الهبوط السياسي الوطني المدوي، ستستمر على مدى العقود اللاحقة.

وحتى نتلمس حجم المكاسب التي كان يمكن لبلدنا أن يحققها، لو أن رعيله السياسي الأول  حافظ على النزر القليل من التعددية، بدل الوقوع في سقطة دجمبر 1961، سنستعرض سريعا محطات من التجربة السنغالية:

فرغم أن الحزب الاشتراكي، بزعامة سنغور وعبدو ضيوف في ما بعد، سيحكم البلاد لأربعة عقود متتالية، إلا أن الإبقاء على التعددية السياسية في أقل مستوياتها، سيحصن السنغال ضد الانقلابات العسكرية،  كما أنه سيمهد الطريق للتناوب على السلطة في فاتح ابريل سنة 2000. بل إن هذا النظام السياسي سيفاجئ العالم بأسره، وسيثبت للجميع بأنه بلغ سن الرشد في 25 مارس 2012، عندما عبر بالبلاد نحو التناوب الثاني وبكل سلاسة وأمان، في زمن بلغت فيه القلوب الحناجر، وظن فيه الناس بالسنغال الظنون.

وفي المقابل سنجد أن ساعي البريد ونظامه المعتوه، إنما أورث غينيا كوناكري والمعجبين به، تركة ثقيلة من الانقلابات العسكرية، وديمقراطية عرجاء ما تكاد تستوي واقفة على قدميها، حتى تعود لتسقط من جديد، في مشهد (سيزيفي) تتشابه فيه الحالتان الموريتانية والغينية إلى حد الضجر.

باختصار لقد مارس (جيل الاستقلال) نوعا من (القهر الفكري)على الأجيال التالية، واستطاع بفضل سيطرته عل وسائل الإعلام والنشر، أن يروج لقراءة مغلوطة لتاريخ موريتانيا السياسي الحديث.

وتقوم تلك القراءة على مسلمة مفادها، أن هناك موريتانيا جميلة وواعدة تم اغتيالها مع سبق الإصرار والترصد في فجر ال10 من يوليو 1978، وأن موريتانيا التي ولدت بعد ذلك التاريخ كانت قبيحة ومفلسة  للغاية,

وبهذا المعنى، علينا أن نتوقف عن طرح أية أسئلة تتعلق بحقبة الاستقلال، لأنها تمثل (الزمن الجميل) فعلا، وأما حرب الصحراء فكانت قدرنا، وأما حماقة الحزب الواحد فكانت أيضا قدرنا، وأما تلك المادة الدستورية الفجة فكانت هي الأخرى قدرنا.

هذه المقاربة التي تقرأ التاريخ بالقطعة، وتعتبره مجموعة (كانتونات) منفصلة عن بعضها البعض، هدفها بالذات هو تبرئة ساحة بناة الدولة الموريتانية الأوائل، وطمس كل أثر للحقيقة.

فأي استنطاق موضوعي لذلك التاريخ، باعتباره كلا متكاملا لا يتجزأ، كان سيفضح أشياء كثيرة، من أهمها أن الذين حكمونا بعيد الاستقلال لم يكونوا (ملائكة)، وأن (ردتنا السياسية)، إنما بدأت منذ مؤتمر الوحدة 1961 و التعديلات الدستورية 1965، وأن ديمقراطيتنا أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وأن الذين سرقوا أحلامنا لم يكونوا فقط بزي عسكري، حتى ولو أقسم الكثيرون على أنهم كانوا كذلك.

ماذا لو افترضنا أن مؤتمر الوحدة لم ينعقد، وأن التعديلات الدستورية لعام 1965 لم تحدث، وأننا لم نبتلى بنظام الحزب الواحد؟

ألم يكن ذلك ليمكننا اليوم، من العبور مع الجارة السنغال نحو الضفة الأخرى، بدل التخبط في الوحل مع غينيا وأخواتها؟

وماذا لو افترضنا أننا حافظنا على التعددية السياسية في هذا البلد، ألم يكن بإمكاننا  وقتها أن نتفادى حرب الصحراء، التي لم تبق ولم تذر؟

ولو أننا تمكنا من تفادي تلك الحرب، ألم يكن بمقدورنا منطقيا أن نتفادى أيضا انقلاب يوليو 1978، والانقلابات اللاحقة؟

وهل خرج العسكر فعلا من ثكناتهم في ذلك اليوم؟، أم أن نخبتنا السياسية هي التي أخرجتهم منها عنوة، لفرط ما ارتكبته من حماقات؟

 

وهل كتب علينا أن نترك (جيل الاستقلال) يعيش متخفيا، وراء أقنعة صنعها بنفسه لنفسه، أم أن الوقت قد حان، لكي تسقط كل تلك الأقنعة؟ ألم يئن للذين حكمونا بعيد الاستقلال، أن يعترفوا بذنوبهم ويطلبوا المغفرة؟ 

إن مشكلتنا مع التاريخ، لا تكمن في كونه خاصمنا منذ فجر العاشر من يوليو، بعد أن كنا من صناعه المهرة لردح طويل من الزمن، كما يحلو ل(جيل الاستقلال) أن يصور الأمر ويوهمنا بذلك.

بل إن مشكلتنا الحقيقية والدائمة معه، هي أننا لم نستطع أبدا قراءته أو استنطاقه بتلك الدرجة من الموضوعية والحياد والتجرد التي يستحقها، ولذلك فقد كان من الطبيعي جدا، أن تبقى كل أسئلتنا كما هي، معلقة ومزمنة.

 

البريد الالكتروني: [email protected]

28. أغسطس 2013 - 11:23

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا