انتخابات بلا منطق / الحاج ولد المصطفي

الإنتخاب أو الإقتراع عملية  إجرائية وسياسية ، أقرتها الديمقراطية كوسيلة ناجعة يختار بواسطتها الشعب من يمثله وتتنافس فيها القوي السياسية  وتترتب عليها معطيات جديدة تشكل خارطة البلاد السياسية ، وهي فرصة للخروج من الأزمات السياسية  وتجاوز الخلافات

 وتوحيد الجهود من أجل تحقيق التنمية  الشاملة والتغيير البناء والإصلاح والتقدم ,لكن مايحدث في بلادنا هو شيء آخر لا أفهمه تماما ولا أجد في الألفاظ والعبارات المتداولة ما يعبر عن تجلياته ووقائعه وأحداثه ،لكنني أردت أن أسلك طريقا مختلفا في قراءة "المشهد الإنتخابي" لا أعتمد فيه علي مفاهيم الديمقراطية و المنطق والأدلة والبراهين والتوقعات ؟

النظام الحاكم لم يخالف في تسيير البلاد كل الأنظمة السلطوية قبل تبني شعار الديمقراطية وبعده..!  

سنبدأ بمناقشة هذه القضية :  

علي مستوي الأشخاص : لايزال قلة من الناس هم من يمارس السلطة بالفعل مهما اختلفت المواقع والتسميات .يكفي للتدليل علي ذلك استعراض التاريخ الوظيفي لأشخاص  من هؤلاء "القادة الأذكياء" أو بعبارة المجتمع "آفكاريش". (س من الناس)  : بدأ مشواره  مدرسا في وقت كانت الوظيفة الأكثر مردودية متعلقة بمعرفة لغة  الحكام الفرنسيين والتخابر معهم وتعليم لغتهم للأبناء ونشر ثقافتهم بإعتبار أن ذلك هو مايقرب منهم ويكسب صاحبه المنزلة المتقدمة في دولتهم ونظام حكمهم  . ثم دخل الجيش ضابطا عندما انتقلت البلاد من مرحلة الإستعمار المباشر إلي الإستعمار غير المباشر أو "الإستقلال" وكانت أهم أدوات هذا الإستقلال وأكثرها تحكما في الدولة هي مؤسسة الجيش وسلطتها الموروثة من الإستعمار والمنغرسة في لاشعور المواطن الموريتانية . ثم تنقل (أفكراش) بين وزارات الدولة في مرحلة الإنقلابات المتوالية ثم سفارات البلاد في الخارج للتمتع والعلاج وأخيرا أظل "البطل " في مشهد :الديمقراطية " نائبا برلمانيا أو مرشحا قويا للسلطة و قياديا في حزبها أومحاورا سياسيا باسمها وغيره من الأدوار الجديدة .. (ص من الناس)

بدأ مشواره بعد التخرج من المدرسة الإبتدائية بشهادة ختم الدروس (كونكور) رئيس مركز إداري ثم حاكما لمقاطعة أو- دائرة وقتها – فواليا لولاية  ثم في مرحلة حكم الجيش وزيرا ثم سفيرا( ثم وزيرا ثم سفيرا وهلم جر ) وهاهو يعود في مرحلة اللا ديمقراطية مرشحا لحزب السلطة عن الحزب الجمهوري ثم عن حزب الإتحاد و يخوض غمار الديمقراطية بكل تفاصيلها ويبشر حزبه الشباب بخطة "تجيد الطبقة السياسية" (ج من الناس)

بدأ عمله خارج البلاد مرة  يبيع في دكان صغير ومرة يخيط الملابس وأخري يحرس المباني في عاصمة إفريقية ثم عربية ثم يعتنق الفكر الإديولوجي في مرحلة الإستعمار غير المباشر "الإستقلال" ويبدأ نضاله من أجل تحرير البلاد وتخليصها من براثين الإحتلال والعدوان ويحلم بالوحدة العربية والثورة وتحرير فلسطين ...يعود إلي وطنه فيحاصره الفقر وثقافة المجتمع  وينبهر بحال نظرائه في السلطة ويدرك في أن أفكاره هي مايمكن التعويل عليه في الوصول إلي المنصب  فيتقدم النضال ويدخل السجن وتتدخل قبيلته لتخرجه منه (ثم يعود إليه ثم تعود القبيلة لفك أسره)

ويحدث التحول إلي مرحلة حكم الجيش فيجد المناضل فرصته سانحة ويلتحق بالفريق(آفكاريش) وينهمك بنهم شديد في تفاصيل الإستفادة منها ويحاول تعويض كل ما فاته ويتنكر لكل رفقائه وينضم لقبيلته ويلتحم بإديولوجية السلطة  ثم يدخل حزبا معرضا في "مرحلة الديمقراطية" ولن تفاجأ إذا رأيته بعد ذلك يتنقل بين حزب معارض يصعد منه نائبا في البرلمان ثم حزبا مواليا يترشح منه لذات الموقع - لافرق –

 

الوعي السياسي لم يبرح مكانه منذ ما قبل الدولة ..! 

في كل مرة تجري فيها الإنتخابات يعود الجميع إلي النفوذ القبلي والعواطف الفئوية والعرقية والجهوية والدينية عن قصد ووعي أو عن غير قصد ولاوعي .

نهج الموالاة وأساليبها  في الممارسة الإنتخابية:

أدرك ولد الطايع منذ العام 1992م أهمية إحياء القبلية - التي حرص قبل ذلك علي محاربتها ورفض تدخلات نفوذها وشخوصها-  وكان إحياء القبلية هو النتيجة الحاسمة التي جري توظيفها بقوة والإستفادة الكبيرة منها بإرادة استحواذ واستقواء واستنجاد وبممارسات لاواعية ولاإرادية وقد ترسخت حينها مراكز نفوذ انتخابية صارت معروفة ومضمونة النتائج ومعتمدة في كل المنافسات الإنتخابية مهما تغيرت أسماء الأشخاص القبليين (فمرشح كيهيدي من قبلية (....) ومرشح دكن من قبيلة كذا(....)  ومرشح بوتلميت من قبيلة (.....) وهكذا حتي في العاصمة : مرشح  توجنين(...) والسبخة(....)الرياض (...)

وفي كل مرة يجرؤ فيها حزب علي مخالفة القاعدة الراسخة في "ديمقراطية موريتانيا" يكون الثمن هو الخسارة رغم التعويل أحيانا علي التزوير والتخويف والإغراء والأمثلة معروفة (أهم المواقع التي خسر فيها حزب الإتحاد من أجل الجمهورية).

ويسلك النظام وموالاته أساليب تؤسس لوعي مقلوب أو تحيي تراثا من الممارسة السياسية القديمة كالرشوة وشراء البطاقات التي لا يؤمن تصويت أصحابها واحتجازها واستخدام الرموز الوطنية كالأعلام وصور الرؤساء وتدخلات قادة الجيوش والموظفون السامون في الدولة والأكثر تخلفا من ذلك بث الشائعات التي تخيف الموظفين وتهددهم بقطع أرزاقهم وتدفع رجال الأموال لتسخير مؤسساتهم الإقتصادية والتجارية للدعاية الإنتخابية والضغط عليهم بالترهيب والترغيب .. المعارضون المشاركون:

يجد المعارضون أنفسهم مرغمين علي توظيف ما يتاح لهم توظيفه من نفس الأساليب والوسائل التي تتبعها الموالاة فيبادرون إلي الإستفادة من أخطاء الموالاة في توظيف الأبعاد القبلية والتوازنات المتخلفة والتي قامت تلك الأحزاب علي مناهضتها ومحاربتها ، لكن للضرورة أحكام ومنطق اللاوعي يشرع لها ذلك ولعل بعض أبرز نتائج تلك المعارضة كانت بسبب ترشيحات المغاضبين من الموالاة (الوئام ) وأساليب الدعاية المتحايلة والمتخلفة حاضرة بقوة في حملات المعارضين ( كظواهر التبذير في الحملة و توظيف الرموز الدينية و الإستجداء بالطوائف والفئات الإجتماعية   ).

 

حوارالمعارضة والنظام:  أعطي خلاله النظام باليد اليمني ما أخذه - في هذه الإنتخابات-  باليد اليسري.

 

فقد فاخرت المعارضة  المحاورة  بانتزاعها مكاسب للديمقراطية ما كانت لتتحقق لولا دخولها حوارا مع النظام وابتعادها عن المطالبة برحيله ،وبالفعل أعلن عن إجراءات جديدة في شكلها أفرغت في ما بعد من محتواها : اللجنة المستقلة التي ستشرف لأول مرة علي جميع مراحل العملية الإنتخابية وسيكون اختيارها مناصفة بين الموالاة والمعارضة المشاركة .

لقد انتهي تشكيل هذه اللجنة إلي ما سماه الزعيم مسعود (أبرز المحاورين) بلجنة "لخروطي" أشخاص لايمتلكون أي خبرة وليست لديهم صلاحيات حقيقة وإنما زبناء  للنظام وباحثين عن المنافع الشخصية ولا أدل علي ذلك من أنهم (يناقشون منذ بعض الوقت و باهتمام كبير مع رئيس الدولة أمكانية منحهم حقوق التقاعد بعد انتهاء عملهم لتوفير عائدات مالية دائمة لأسرهم )

هؤلاء ظهر أحد رؤساء مكاتبهم في الإنتخابات أمام الكاميرات وهو يسلم لمواطن(رئيس الدولة ) ورقة جديدة بعد أن أخطأ في التصويت نتيجة الأمية الحضارية وهي مخالفة علنية تظهر أن لاشعور و لاوعي  المسؤول الموريتاني  أكثر تحكما في تصرفاته من وعيه السياسي وضميره المهني وشعوري الوطني.

الترشحات المستقلة:

أدي هذا الإجراء إلي نتائج عكسية و أفقد الحزب السياسي هيبته ومكانته الدستورية والسياسية وأنحط بيه إلي مجرد ترخيص أو ملكية تجارية تباع وتشتري ويساوم بها لنيل مكاسب مالية أو انتخابية وزاد من تعقيد التصويت وضاعف من شعارات الأحزاب مما أربك الناخب ورفع نسبة الأصوات اللاغيه إلي مستوي لم تصله في أول أنتخابات أجريت في البلاد فقد احتلت المرتبة الثانية في النتائج المعلنة للائحة الوطنية للنيابيات !

المشاريع السياسية في البلاد تنتكس .

في هذه القضية تظهر بجلاء عبثية انتخابات 23 من نوفمبر فقد أخرج اليساريون من التنافس الإنتخابي في سابقة لم تكن لتحدث لو أن العملية الجارية تنتمي للممارسة الديمقراطية من قريب أو بعيد ،فهذا التيار هو الأكثر تمسكا بالنهج الديمقراطي وقد أسس وعيا مدنيا تاريخيا نتيجة ممارسته الإنتخابية جعلت من نفسه حزبا سياسيا موريتانيا متاحا لكل الموريتنين زنوجا وعربا علي أسس غير قبلية أو دينية .

كما أقصت هذه الإنتخابات تيارات ليبرالية  ومستقلة في أكبر حزب سياسي موريتاني منذ نشأة الديمقراطية ويرأسه أول زعيم للمعارضة الموريتانية والأكثر شعبية في انتخابات رآسية سابقة42%.

أرغمت تلك الإنتخابات أيضا مجموعات سياسية ضحت من أجل إنقاذ البلاد من الدكتاتورية وقدمت أرواحها ثمنا لحرية الوطن علي الإبتعاد عن قواعدها والخروج من دائرة الفعل السياسي الذي اعتقدوا يوما أنهم سيشكلون رقما صعبا فيه .

مشروعان آخران لها حضور قوي في التاريخ السياسي للبلد حكمت عليهما انتخابات نوفمبر بالموت البطيء وهما يتقاطعان في حمل راية الدفاع عن شرائح اجتماعية عانت الظلم والإستعباد في تاريخ الممارسة الإجتماعية للبلد وكونا في وقت من الأوقات حزبا قويا  أزعج النظام والدولة ،فحلته ثم توزعا علي حزبين لفئتين هما الأكثر تضررا من ذلك المسار. ووصل نضالهما إلي نتائج معتبرة في انتخابات الرآسة لكن الحزبين يحصدان اليوم نتائج هامشية تجعل أحزابا لا تملك سوي مشاريع الإسترزاق السياسي تتقدم عليهما (الوئام والحراك والإتحاد من أجل التنمية يتقدمون علي التحالف الشعبي  وحركة التجديد  والصواب ).

وأخيرا أجبر هذا الإنتخاب أقوي تيار شعبي بأكثر مرجعيات المشاريع السياسية التحاما بالشعب الموريتاني وثقافته الحضارية (تواصل )علي الإنحناء للسلطة التي طالب برحيلها والدخول معها في مساومة لاواعية علي تقاسم النفوذ الإنتخابي ستؤدي إلي مشاركة في إضفاء  ذات الشرعية - التي يرفضونها في أدبياتهم وأحاديث قادتهم- علي النظام  .

إننا أمام تراكمات من الأخطاء والسلوكيات المنحرفة أعادتنا – عن قصد أو غير قصد - ممارساتها الإنتخابية  غير الديمقراطية وغير الواعية إلي المربع الأول لنشأة الدولة وصراعات القوة والنفوذ  وألقت بمشاريع الوعي السياسي والديمقراطي خارج دائرة الفعل .فهل نعيد إنتاجها (أي مشاريع الوعي والديمقراطية )من جديد؟

[email protected]  

30. نوفمبر 2013 - 14:58

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا