إضاءة من الداخل على مشكل التعليم (1) / حمزه ولد محفوظ المبارك

حمزه ولد محفوظ المباركمشكل التعليم في بلادنا مشكل عميق و مأساوي بشكل فظيع تشترك فيه مسببات عديدة يمكن إجمالها في مسبب ملتف يتعلق بالجهل المطبق بمكانة العلم في تحديد مصائر الشعوب و إنعكاسه على مستوى الرفاهية المادية و الوعي الإجتماعي و تحيق العدالة التي تكفل إستدامة التطور الحضاري الأمين.

إن البنية المنهارة لمؤسساتنا التعليمية و واقع قرارها السياسي الهزيل إضافة إلى المتغيرات الإجتماعية و الديمغرافية المتسارعة لساكنة البلد كلها عوامل جعلت التعليم يتقهقر بشكل مخيف , فلا يخفى على أحد اليوم ما بمؤسساتنا التعليمية من تدهور في جميع الخدمات و ما تعج به من وسائل تدمير و إبادة العقول.

لقد جاء في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: - لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد الهمجية إلى حد الإنسانية-(إنتهى).

و ما دام العلم هو المنوط وحده بإخراج الخليقة من حد الهمجية إلى عوالم العدل و الكرامة و الإنصاف فحري بأي منظومة إجتماعية أن تجعله من أولويات بنيانها و إلا وصلت لما وصل إليه مجتمعنا اليوم من بدائية الإحساس و عبثية التعبير و همجية السلوك الإجتماعي و خلط للمفاهيم و إتساع دائرة الخلاف و تعميق هوة الفوارق المعيشية , و لا شك أن هذه النتائج تصلح أن تكون هي الأخرى مسببات لجملة توازيها من التعقيدات و هكذا تتشكل سلسة مترابطة المآلات متراكمة النتائج الوخيمة.

إن العلم هو طريق تقدم الشعوب و نهوضها و تبوئها مكانة لا ئقة بين الأمم و هو ركيزة البنيان الإجتماعي و محدد العلاقة بين الأفراد , إضافة إلى أنه وعاء الحضارة و حاضنة التراث , و أيُّما شعب أخذ بناصيته تجاوز الكثير من مقعدات الجهل و مسببات الحروب و الفتن , و إنشغل أفراده بالبناء , و ترفعت نفوسهم عن حياكة المظالم و تطريز الفوارق , و صباغة الجلود و جلد الذات , و ترفعت نفوسهم عن التكبر و الإختلاس و التطلع و الرشوة و التطبيل و التصفيق و الرقص على الحبال.

لكن واقع مجتمعنا اليوم و للأسف لا يزال بعيدا عن الوصول لتلك المرتبة العالمة المؤسسة لدولة القانون التي هي ملك للجميع يرى فيها القوي قوة الضعيف بالدولة و يقف فيها الضعيف عند حدود قوة الدولة التي هي مصدر قوته , و في حقيقة الأمر يعود ذلك إلى زوال نعمة العلم التي تسهر الدولة اليوم على تفكيك بنيتها و تضييعها بشكل ممنهج و بمسميات مختلفة سواء تعلق الأمر بالإصلاح الذي حملت الدولة شعاره في أول خطوة جادة للتدمير سنة 1999 حين كان المجتمع على وشك الإبتهاج بأجيال من المتعلمين و الدارسيين الذين تلقوا تعليما جيدا إذا ما قارناه بحال تعليمنا المتقهقر اليوم , فإصلاح -99- الذي واكبته حملات دعائية آنذاك و أستنفرت له الدولة طاقاتها الدعائية و دخلت فيه دون تشاور مع الميدانيين و فرضته فرضا على أغلبهم كان كارثة بكل المقاييس , فقد تسبب ذلك القرار المرتجل العنيف إلى كوارث لا تعد و لا تحصى و أدى إلى خسائر جمة و تضررت منه كفاءات علمية و أثقل كاهل الدولة بديون لا قبل لها بها , و حينما بدأت مخرجاته تظهر تحصلنا على جيل من الأمين لا يقرأون و لا يكتبون بأي من اللغتين ( العربية و الفرنسية) و ضاعت المادة العلمية بين عجز المدرس المقهور و ضعف التلميذ المظلوم.

و إذا تعلق الأمر من جهة أخرىالقائمين على الوزارات المتذبذبة للتعليم التي لا تستقر على حال فقد سيء إختيارهم في كل مرة , فلا أتذكر مطلقا أن حركة الفساد الهائلة في هذا القطاع قد توقفت يوما واحدا , ففي مجال الفساد المالي ظلت وزارات و إدارات التعليم محتكرة من طرف اللوبيات العتيقة و مشتقاتها من المتمردين على الخدمة الميدانية , حيث يتم التلاعب بالعلاوات و الميزانيات و تتم التغطية على مختفين و إدراج بنيات إفتراضية و أفراد مجهولين و بعثات وهمية و تكوينات عبثية و ملتقيات هزلية , الغرض منها هو التحايل على المال العام و إختلاسه بتواطؤ من الجميع مقابل خدمات بائسة و ركيكة في مجملها يتداخل فيها الشخصي و السياسي مع الزبونية و الولاء في خضم الصراعات التي تحتدم بصفة مستمرة بين المليشيات الإدارية في حربها من أجل البقاء .

و على صعيد المؤسسات التربوية فلا يخفى على أحد حجم التردي و الإرتكاس , فمدارسنا اليوم تعج بالأميين لا أقول من التلاميذ فقط بل من المدرسين الذين لا يحسنون القراءة و لا يعرفون الكتابة و السبب في ذلك هو سريان الفساد إلى مدارس التكوين , كيف لا و الحالة هذه ؟!  فجل الذين يتم إختيارهم لدخول مدارس التكوين لا يتم إختيارهم على أساس علمي يضمن السلامة من العيوب التي يجب أن تتخطى الأمية إلى السلوك و الأخلاق , ثم إن نمط التكوينات التي يتلقونها لا تنبني على التأطير و التعليم و التوجيه و التكوين و المتابعة بل على قاعدة تضييع الوقت و التواطؤ على الفساد....و على ذلك الأساس تظهر كل سنة مجموعة من الخريجين هي أسوء حالا من سابقتها.

ضف إلى ذلك همجية التدمير للبنية التربوية الموبوءة و ذلك من خلال فتح أبواب المدارس أمام المارة و ربات المنازل و شذاذ الآفاق و كل من فشل و لفظته المدارس الفاشلة أصلا , فقد أصبح كل هؤلاء مدرسون يتحكمون في مصائر أبنائنا في مرحلة يبدو أنها الأخيرة للإجهاز على هذا الكائن المدمر الذي فقد على ما يبدو مناعته المكتسبة منذ زمن , ليكون للأمراض الإنتهازية دور الحسم في القضاء عليه.

كما أن غياب المكافئة و لا أقول هنا العقوبة , لأن هناك أشخاص لا خوف عليهم و لا هم يحزنون يفعلون ما يشاؤون على كل المستويات و يفسدون كما يشاؤون و يحولون من يشاؤون في أي وقت و إلى أي مكان , فالتحويلات و مذكرات العمل التي لا تتوقف الوزارة عن العبث بها إستجابة لتدخلات النافذين و الأقارب و أهل الجهة الواحدة و القبيلة و الفئة السياسية الواحدة , تلعب هي الأخرى دورها البارز في حالات الفراغ هنا و هناك , كما أن غياب مكافئة العاملين المجدين المهنيين المخلصين هو الآخر يلعب دورا هاما في هدم البنيان التعليمي المنهار لأن الكثير من هؤلاء يجد نفسه مضطرا لمغادرة هذا الميدان بسبب إحساسه بالحيف و الظلم و هو يرى غيره من المتقاعسين المتحايليين ينالون من الإمتيازات في التحويلات و التكريمات و غيرها ما لا يناله هو رغم أحقيته به.   -يتواصل-

الأستاذ : حمزه ولد محفوظ المبارك.

ثانوية ولد ينج.

22. يناير 2014 - 14:57

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا