نواذيبو..رسائل البحر / عبد الله ولد البو

الطريق بين عاصمتي موريتانيا ليست أطول مما يتوهم المسافر، مثلي، لأول مرة، خط متعرج، ممهد، إجمالا، يشق البساط الرملي الممتد ملء البصر، تحفه نباتات صحراوية متفرقة على جانبيه.. السيارة تلتهم المسافة الفاصلة بين العاصمة والعاصمة، ويخترق الفضاء الفسيح نسيم البحر مداعبا روحك قبل جسمك، فيفتح للذكريات والعبر، وربما للعبرات طريقا داخليا يخترق الأعماق..

ما الذي يفكر فيه مواطن من غرة الوسط، وهو يصافح الطريق إلى الشمال حيث ضفة أخرى من الوطن لم تطأها قدماه، مذ خالجت نفسه يقظة الحياة..؟ حقا أن الوطن فسيح كالأمل، وممتد كالرجاء، وخالص كالذهب الذي يحمله القطار من أزويرات إلى نواذيبو، ومنها إلى أرض الله الواسعة، حيث ينتهي قلادة في جيد أو خاتما في يد أو سلعة في محل مجوهرات، أما نحن ، أبناء الأرض، فلا نجني إلا حسرات ودموع في أحياء صفيح تصفد العاصمتين منذ يوم ولدتهما اليابسة، المبللة.
لا بد أنّ المواطن البسيط مثلي، سيعيد الكرة تلو الكرة، ويجلو الفكرة بعد الفكرة، وترتسم في مخيلته كل الصيغ الممكنة من "كيف ولماذا وإلى أين ومتى،" وغيرها من علامات التعجب وأمارات الاستغراب والتحسر مما فيه وما وصلت أو أُوصِلت إليه هذه البلاد عبر السنين والأيام.
والأهم من ذلك، كيف لنا أن نخرج أنفسنا من هذا النفق القاتم الذي نتخبط فيه منذ عقود وعقود، وهل إلى خروج من سبيل؟..
ضَياع..؟
عن يساري، وفي بداية الطريق، كانت تتراءى من بعيد جامعة العلوم والتقنيات، ولو مددت طرفك أبعد لربما أبصرت مطار نواكشوط الدولي الجديد، لا ريب أنها بداية جيدة لمن تغريه الآمال ويغلب تفاؤله على سوداوية النظر لدى البعض وعمى البصر والبصيرة لدى البعض الآخر...
في موريتانيا، كما يصعب أن تجد شيئا خلوا من الفساد، يعسر، كذلك أن تجد شيئا خلوا من السياسية، وكأن توأمة الفساد والسياسة أو قل زواجهما قدر مقدور، سبق به القلم وجفت الصحف، حتى لم يعد يثير كثير ريبة أو توجس، فالسياسة تحمي الفساد، وتشرعه، وترعاه، والفساد يصنع بيئة شعبية ونخبوية تنافح عن "السياسة"، وتدافع عنها، لذلك فلا يكاد المواطن العادي يجد حقيقة لما يجري في أرضه وتحت سماء وطنه، على أي مستوى كان، فالموالاة تجعل المدرة جبلا، والمعارضة تحيل الجمل بعوضة، وهكذا دواليك،  ليضيع الحق، وتستتر الحقيقة وراء متاريس التخندق السياسي والحزبي..
العبور إلى وطن..
كانت زيارتي لنواذيبو ، مذ بدايتها، استثناءا من كل وجه، فطالما أردت أن أغشى هذه المدينة التي أسمع عنها كثيرا، فتأتي الظروف مخالفة للإرادة، مجافية لها، إلى أن تركتُ، في غمرة الانشغال المهني، مراودة أحلام العبور إلى نواذيبو، لتأتي على غير ميعاد ولا مراد، في مهمة مهنية إبانَ زيارة رئيس الجمهورية لهذه المدينة.
هدوء المدينة يشبه هدوء البحر الذي يطوق خصرها، وهدوء النّاس، يختزن الكثير، ويفصح عن كثير، فنواذيبو، العاصمة الاقتصادية، والمنطقة الحرة، وبوابة موريتانيا إلى شمال إفريقيا تحتاج الكثير، تماما كالحوضين، ولبراكنة وأترارزة ولعصابة والضفة وغيرها من مناطق البلاد.
وفي نواذيبو يتلخص الوطن، يأخذ أشكاله المتعددة، لتصبح تفاصيل دقيقة في لوحة أكبر، هي : موريتانيا،  هذا الوطن، الذي يريدُ لناَ، كما نواذيبو، أن نصبح سادةَ الأطلسي، وحاجبَ إفريقيا جنوب الصحراء، وسفير المشرق، وواسطة عقد المغرب الكبير، ونريد نحن، أو قل، تريد لنا نخبتنا، أن نظل رقما هامشيا على تقارير المنظمات الدولية، وسلعة تتقذافها أمواج الأسواق العالمية، وشيئا غير مذكور في سجلات التاريخ، وعلى خرائط الجغرافيا..
همس..
يذكركُ بحر نواذيبو ، وهو يطل في شموخ على المدينة الشاطئية، كم هو مفجع تهافتُ النخب السياسية والثقافية الوطنية  في موريتانيا على تفاصيل جزئية وثانوية، ومناصب وألقاب ومسميات وفتات غير ذي بال، يهمس في أذنك، ما لهم يتزاحمون على "التراب" والتبر بين ظهرانيهم، وكيف يلهثون خلف المكاسب الشخصية والفئوية غير آبهين بالمكسب الوطني، والإنجاز الوطني، والتقدم الوطني،إن الوطن لا يقبل القسمة، ولا الطرح، ولن نتقدم قيد أنملة، وبين ظهرانينا من يريدُ لنفسه، ونفسه فحسب، ولفئته وفئته فقط، ولقبيله ولاشيء غير قبيله.
حديث..
كان يحكى، في سنين مضت، أن البلاد إيانا بحاجة إلى قيادة سياسية حكيمة ورشيدة، وحريصة على المصلحة العامة، وأحسب أن هذه المسألة لم تعد مطروحة اليوم، في جو يستفيد فيه المعارض قبل الموالي، ربما، من هامش الحرية الكبير مقارنة  بكثير من  جيراننا ، (لعل نواذيبو يعرف هذا بشكل جيد)، ويفترض في هذا الجو أيضا أن تكون القيادة اختيارا شعبيا نزيها وشفافا، ومعبر عن الإرادة الجمعية، كان يؤخذ على الأنظمة السالفة، إيغالها في الفساد وتبديد ثروات الوطن، أما اليوم فقد غدت مساءلة رأس السلطة تتم على الهواء، وهو أمرُ ، بعجره وبجره، بعيد كلّ البعد مما كان عليه الحال، في سالفَ أيامنا القريبة..
في المدينة أيضا، سمعنا حديثا عن الالتفات إلى الطبقات الفقيرة، والسكان الأكثر احتياجا، وقاطني العشوائيات، وكل المفردات التي تحيل إلى حقل دلالي واحد هو "الشعب الموريتاني"، وكلام آخر ربما أكثر وضوحا ونضجا عن "إصلاح التعليم" و"الصحة" و"الزراعة" وغير ذلك من القضايا بالغة الأهمية، وحتى على مستوى البنية الفوقية، فإن الوعود، قبل الواقع، تبعث على الأمل والاستشراف: كلام مفتوح عن الحوار مع المعارضة، الأكثر أصولية، وعهود بالجملة بعدم التراجع عن "المكتسبات" التي على رأسها حرية التعبير والصحافة والإعلام، هذا أيضًا مشجع.
لكن اعترافا مهما ومرَا، سُمع كذلك في نواذيبو، مفاده أن البلاد لا تزال بعيدة كل البعد عما ينبغي ويجب أن تكون عليه، رغم كل ما قيل من توفر للإمكانيات وللنوايا الطيبة والصادقة، ورغم انقضاء خمس سنين، عمرِ مأمورية رئاسية كاملة، وهذا اعتراف يشي بأن عنصرا  أساسيا ما في هذه البلاد، لا يزال "خارج الخدمة"، معطلا أو متعطلا عن ممارسة فعله.
"بيتي بخيلُ لا أنَا.."
نعمْ . شيء واحد تنقبض له أمواج نواذيبو، كقلبي، وهو انتكاسة النخب السياسية والثقافية عن مواكبة هذه الحقائق، وتقاعسها عن تسلم دورها الحقيقي، وتخلفها عن ممارسة مهمتها التاريخية، وانصرافها إلى جمع الفتات، وأكل الفتات وقول الفتات.
الحكومات والحكام في النظام الديمقراطي، أمواج يلعب بها التيار مدًا وجزرا، تقديما وتأخيرا، وارتفاعا وانخفاضا، لكن الشعوب، والنخب تبقى العماد الحقيقي والمقياس الصادق لأية تنمية وكل تقدم وازدهار، وحين تستقيل هذه النخبُ أو تقال من مهمتها يصبح الحديث عن الديمقراطية والتنمية أكذبُ من الشيخِ الغريبِ..
ونواذيبو، كسائر موريتانيا، ببرها وبحرها، وبمكانتها الاستيراتيجية في محيطها، وبالثروات التي تكتزنها ظاهرا وباطنا،وبإمكاناتها الهائلة اقتصاديا وبشريا، حقيقةُ أن تصبح مدينة تنافس أسواق المنطقة والعالم، وخزانا اقتصاديا هائلا تنهل منه موريتانيا والبلدان المجاورة، لا أن تكون عالة على أجد، أو رقما في سجلات أحد.
لكن نواذيبو أيضا، جزء من هذا الوطن الذي يحتاج، فيما يحتاجه، إرادة سياسية غير يتيمة، بمعنى، أن لزوميات  النهضة الحقيقية ، والواعدة لا يمكن أن تناط بالإرادة السياسية فقط ـ هذا على افتراض وجود تلك الإرادة ـ ، كما لا يستقيم أن تعتمد على البعد الشعبي وحده، ولكنها، ثمرة تلاقي الأمرين معا، مضافا إليهما ومعطوفا عليهما، قبل ذلك وفوق ذلك، وجود نخبة سياسية وثقافية حقيقية، ناضجة ومخلصة، لقضايا الوطن، كل الوطن، تؤطر، وتوجه الدفة السياسية والشعبية لشاطئ أمان ومرْسى نهوض وسلام.
حين يتحقق ذلك نستطيع، وقتَها، أن نجد حلولا ناجعة حقا لكثير من المصائب والمشاكل، وأن نعريّ المفسدين وفسادهم من ورقة التوت الأخيرة التي يستترون خلفها، ونغلق البابَ على الدعوات التشتيتية والمناطقية، ونضع الجميع تحت طائلةَ العدل، بلا استثناء، وبذلك نتمكن من مواجهة مشاكلنا الحقيقية، بجهد الجميع وعرق الجميع ، حينها فقط، سيكون الطريق بين موريتانيا ومكانتها اللائقة، وازدهارها المنظور أقرب بكثير مما يتوهم القارئ،لسبب بسيط هو أننا نتوفر ، بمدننا وثرواتنا، وبمكوناتنا الاجتماعية والثقافية على أسباب الرقيّ، لكننا نفتقد الشروط الموضوعية للإبحار نحوه، نظرا لغياب و تغييب المهمة النخبوية والريادية ،  أو هذا ـ على الأقل ـ  ما استطعتُ فهمه من رسائل البحر.!!!


عبد الله ولد البو/ كاتب صحفي
البريد الالكتروني : [email protected]

19. أبريل 2014 - 14:01

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا