بالصدق والعلم وحدهما تخدم القضايا الكبرى! / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

مسيرة "حقوق لحراطين" أسالت حبرا كثيرا وأهدرت جهدا كبيرا وكانت دون ما راهن عليه من أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بمناسبتها في بلد ينفلت من عقاله ويختلط حابله بنابله وتغيب فيه سلطة القانون! ومن أهم صفاتها

المنطبقة تلك التي أضفاها الشيخ بيرام ولد اعبيدي على مسيرات مماثلة قال عنها "إنها غير خالصة لوجه الله".
لقد قرأت جل ما كتب عن تلك المسيرة ـ الحدث بغثه وسمينه، ونشرت عنها ملفا وافيا في موقعي الألكتروني، فآلمني أمران هما:
- محاولة جل من هب ودب ركوب قضية لحراطين والكذب عليهم والمتاجرة بعذاباتهم لبلوغ مآرب ضيقة أخرى، وبعدها "فلتخرب البئر" وليَنْهَر الوطن!
- مدى ما أصاب اللغة العربية من هوان بأيدي كتاب موريتانيا الأشاوس!
وبعيدا عما سكب من دموع التماسيح على "حقوق لحراطين" وعن هموم اللغة العربية المهدورة، وجدت من واجبي تقديم بعض الملاحظات على بعض المقولات الواردة في أحد مقالات هذه الحملة؛ وذلك إنصافا للمجتمع وإحقاقا للحق.
يقول المقال، وعنوانه "29 إبريل فرصة المثقف الموريتاني" في مقولته الأولى: "لا يختلف اثنان على أن البداية الفعلية لنضال شريحة لحراطين أو العبيد السابقين كانت في السبعينات من القرن الماضي وتحديدا مع ظهور حركة الحر التي أنشأتها مجموعة قليلة من أطر الشريحة من أمثال عاشور ولد صنب وبلال ولد ورزك ولم يكن بينهم أحد من الشرائح الأخرى خاصة العرب البيظان بوصفهم الأسياد أو ممارسي الرق"!
وهذا قول غير صحيح. لقد كان حريا بمن يتصدى للعظائم أن يميز أولا، بين لحراطين والعبيد؟ لأن لحراطين ليسو عبيدا، ومن بينهم من لم يسبق عليه رق أبدا، ولا يوجد عبيد أو عبودية في موريتانيا. وقد أوضحتُ ذلك في مناسبات عديدة ويمكن الرجوع إليه. ولعل أهم إضافة أضافها ميثاق لحراطين أنه قطع الشك باليقين وعالج التهميش والفقر والغبن بدل الحديث عن عبودية وهمية.
وثانيا، أن يدرك أن النضال ضد العبودية من جهة، والنضال ضد تهميش وغبن الشرائح الضعيفة من المجتمع من جهة أخرى، لم يبدآ في السبعينات مع حركة الحر؛ بل بدآ قبل ذلك بكثير.. حيث اندلعت شرارة محاربة العبودية والاضطهاد والغبن - حسب ما وصل إلينا من خبر- مع حركة ناصر الدين الذي أعلن في صدر القرن السابع عشر الميلادي "أن الله حرم على أولي الأمر نهب أموال الرعية، وسفك دمائهم واسترقاق رقابهم. وإنما أوجب عليهم رعايتهم وحمايتهم من أعدائهم. إن الرعية لم تسخر لأولي الأمر؛ بل أولو الأمر هم المسخرون للرعية". وظلت مشتعلة، وبوقود بيظاني، إلى أن قضي على ظاهرة العبودية نهائيا في الستينيات والسبعينيات، وتم الحد من الاضطهاد والغبن يومئذ أيضا. وما نضالات النهضة والكادحين والمستنيرين من العلماء والوجهاء والإداريين وما ذهب إليه دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية من مساواة وإعلان وحماية لحقوق الإنسان، ومجهود الدولة الموريتانية؛ ذلك الجندي المجهول الذي خلق كيانا وطنيا ومواطنة ومدنا ومدارس للجميع، وطرقا وشركات ومعامل، وأصدر تعميمات متعاقبة إلى السلطات المحلية في الموضوع، وميثاق حزب الشعب الموريتاني الذي يلغي استغلال الإنسان للإنسان، غير خطوات جبارة في هذا النهج التحرري سبقت قيام حركة "الحر" بكثير؛ ولولاها لما كان هناك "حر"! حر يؤسس حركة ثم ما يلبث مؤسسو تلك  الحركة "أن انصهروا في الحياة السياسية أو الوطنية ودخلوا لسبب أو لآخر في فترة نقاهة..." كما يقول المقال.
وثالثا، أن حركة "الحر" كانت سرية. وعليه فإن عدم وجود عرب بيظان من بينها راجع إلى ضيق أفق وانغلاق القائمين عليها قبل غيرهم.
ويقول المقال في مقولته الثانية: "ثم ظهر حزب العمل من أجل التغيير الذي أسسه الزعيم مسعود ولد بلخير الذي جعل من قضية العبودية ولحراطين هدفا لنضاله السامي والنبيل ولم يستطع الحزب استيعاب قواعد من شريحة البيظان وإقناعها بخطابه الذي وصف حينها بالتفريقي والعرقي... بل إن المعارضة الموريتانية آنذاك لم تستطع احتواء مسعود ولد بلخير ومن على شاكلته من مناضلي الشريحة مما دفعهم إلى تأسيس ذلك الحزب"!
وهذا قول غير صحيح أيضا. فلماذا يقفز المقال من حركة الحر إلى حزب العمل ويتجاهل فترتي "افديك" واتحاد القوى الديمقراطية؟ أعن جهل فيعذر، أم عن تجاهل وتحريف للواقع بغية تسويق ما ذهب إليه فيعذل؟ لقد كان مسعود فعلا أحد الزعماء المؤسسين لحركة "افديك" التي ضمت جميع شرائح ومكونات الوطن آنذاك. وكان كذلك أحد مؤسسي اتحاد القوى الديمقراطية في عهده الأول، وأحد أهم زعمائه في عهده الثاني (عهد جديد) وهو العهد الذي اكتسحت فيه المعارضة المدن الكبرى وانتشرت في الأرياف، مما اضطر السلطات الحاكمة ـ لكي تبقى في الحكم ـ إلى العمل على تمزيق وتفتيت المعارضة بمختلف الأساليب والحيل. وكان الرجل و"من على شاكلته من مناضلي الشريحة" ولكور هم من شق صف المعارضة وغادروا حزبها الكبير المجيد (اتحاد القوى الديمقراطية) في عز مجده وتمثيله لكافة أطياف المجتمع وفئاته المتوثبة! وعندما بدؤوا في تأسيس حزب العمل من أجل التغيير أسسوه على اعتبار لون البشرة الذي كان متبنى من بعض الأطراف في بداية الستينيات! فكيف يمكن - والحالة تلك- "استيعاب قواعد من شريحة البيظان"؟ أو القول "إن المعارضة الموريتانية آنذاك لم تستطع احتواء مسعود ومن على شاكلته..." في حين أنه هو ومن على شاكلته هم الذين تخلوا عن المعارضة الموريتانية نهارا جهارا؟ ومع ذلك ورغمه فقد ظلت المعارضة من الشرائح الأخرى تحتضن مسعود وحزب مسعود وتدافع عنه وعن حقه في البقاء على علاته الظاهرة المذكورة.   
ويقول المقال في مقولته الثالثة: "وحتى عندما تم حل حزب العمل من أجل التغيير ولم يجد مسعود بدا من عقد قران مع بعض القوميين في حزب التحالف في اتفاق سياسي معروف ورؤية وحدوية ثاقبة.. إلا أن ذلك لم يشفع للرجل في أوساط مجتمع البيظان الذي ظل يتوجس خيفة من الرجل وبقيت نشاطاته مهرجاناته ونتائج حزبه في الاستحقاقات حكرا على شريحة لحراطين إلا من رحم ربك"!
وهذا قول غير صحيح كذلك. ذلك أنه في فترة التحالف والقران مع القوميين الذي كنا نظنه طبيعيا وخاليا من الإكراه، ازدهر حزب التحالف واحتل الرئيس مسعود ولد بلخير إبان الاستحقاقات الرئاسية التي جرت في 18 يوليو 09 المرتبة الثانية (126782 صوتا) بعد الرئيس محمد ولد عبد العزيز (409100 صوتا) متقدما على زعيم المعارضة أحمد ولد داداه الذي احتل المرتبة الثالثة (106263 صوتا) وعلى الرئيس السابق اعلي ولد محمد فال، وعلى إبراهيما صار، وجميل ولد منصور. ولم ينل هذه المرتبة إلا بأصوات من يسميهم المقال "أوساط مجتمع البيظان الذي ظل يتوجس خيفة من الرجل" لَمَّا رشحوه ونصروه. أما أصوات "شريحة لحرطين" فقد ذهبت إلى الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي أقنعهم بالأفعال قبل الأقوال. (القضاء على أطواق الصفيح، وتحويل مثلث الفقر إلى مثلث للأمل.. مثلا).
ويقول المقال في مقولته الرابعة: "ولم تكن منظمة نجدة العبيد غير المرخصة التي أسسها ببكر ولد مسعود لتسلم من نفس أساليب التعاطي والتعامل؛ هذا باستثناء بعض المثقفين والسياسيين والمحامين الذين تخلصوا وتحرروا من تقاليد وأعراف وأطروحات ضيقة وتبنوا القضية والتحقوا ببكر ولد مسعود..."
وهذا قول غير صحيح هو الآخر. فمنظمة نجدة العبيد لم تعد غير مرخصة، بل رخصت في المرحلة الانتقالية بفضل نضال الشعب الموريتاني الذي يحاول المقال إلصاق تهمتي العبودية والعنصرية بجزء واسع منه، وخاصة بمثقفيه الذين احتضنوا تلك المنظمة ورئيسها في بحثهما عن مخلفات العبودية التي كانت سائدة في مجتمعنا، ودافعوا عنهما حتى أوصلوا السيد بوبكر إلى عضوية اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان. ولكن مشكلة السيد بوبكر ولد مسعود ومن هم على شاكلته وشاكلة بيرام هي الانغلاق بحيث أن كل من لا يعترف اعترافا صريحا وشاملا من أصدقائهم بوجود العبودية في موريتانيا وبأنهم هم محررو العبيد بالتمام والكمال، يعتبرونه ضدهم وعدوا لهم، لأنه ينفي سبب وجودهم السياسي.
ويقول المقال في مقولته الخامسة: "لكن المدهش أن الدرس لم يستوعب بعد سواء من طرف الأنظمة المتعاقبة أو من طرف المثقف الموريتاني خاصة أبناء "لخيام لكبارات".. لقد آن الأوان أن يدرك الجميع أن قضية لحراطين قضية وطنية في المقام الأول وأن حلها شرط ضروري لضمان السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية وينبغي على كل مثقف مهما كان انتماؤه العرقي والسياسي أن يدافع عنها وليس من المقبول ألا يتألم الواحد لمعاناة أبناء الشريحة التي ستظل وصمة عار في جبين الكل إذ الم يتدارك الموقف".
وهذا القول غير صحيح وباطل من أساسه. فالدرس تم استيعابه وحفظه منذ زمان إذا كان يعني إدراك أهمية وخطورة وضع شريحة لحراطين وما يعانونه من تهميش وغبن، وضرورة العمل على تغيير وضعهم وإنهاء - أو تخفيف- معاناتهم وتحقيق مساواتهم حسب الإمكان مع الشرائح الوطنية الأخرى، التي آن الأوان أيضا ليُدرك أن قضيتها قضية وطنية في نفس المقام. أليس كذلك؟
ولولا جهود أبناء "لخيام لكبارات" والمثقفون من الشرائح الأخرى الذين استوعبوا الدرس باكرا - والذين يلومهم المقال ويتهمهم بالتقصير- لما كان حصل تقدم في هذه القضية بالمستوى الهائل الذي نراه اليوم؛ والذي يتجسد في اتباع سياسة وطنية تمييزية لصالح لحراطين.
ولكن ما هو الحل الملائم لقضية لحراطين؟ هنا تكمن المشكلة. ذلك أن قضية لحراطين يتخذها بعضهم مطية للصعود إلى رأس الهرم والحصول على نصيب لا يستحقه من الكسرة (والطابور طويل!) وما دام لم يصعد ولم يعثر على ذلك النصيب فسيبقى باب المزايدة والنقمة على كافة شرائح المجتمع الأخرى وإلغائها ودعوى الويل والثبور مفتوحا على مصراعيه!
ويقول المقال في مقولته السادسة والأخيرة على لسان كاتبه: "وكم كان بودي أن يظهر لنا زعيم كمسعود في البيظان أو مناضل كببكر ولد مسعود في البيظان أو لم لا بيرام في البيظان؟ .. لقد حان الوقت لظهور إبراهام لونكلن موريتانيا فأين هم أولئك المثقفون والكتاب والشعراء والفقهاء؟"
والواقع أن كل ما يوده الكاتب ويتمناه موجود في البيظان ويشكل تمنيه ضربا من تحصيل حاصل؛ إذ بالإضافة إلى مسعودنا وبوبكرنا وبيرامنا المعروفين - والذين يمثلون تنوعا وثراء نفخر به أيما فخر- يوجد مسعودون وبوبكرون وبيراميون بالعشرات في بعض طبقتنا السياسية العتيدة: قادة من الطراز الأول معصومون من الخطأ والزلل ويعبدون عفوية الناس كي تعبدهم، ولا يتأملون أو يعتبرون أو يعترفون بأي خطأ! فأين هي المشكلة إذن؟ {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}!
وتبقى كلمة واحدة عن تمني ظهور أبراهام لينكلن موريتانيا وعن المثقفين والكتاب والشعراء والفقهاء الموريتانيين العاطلين. ما هي أهم خصال أبراهام لينكلن؟ إنها حفاظه على الاتحاد، وإنهاؤه للعبودية. ولقد قام كل من المختار ولد داداه ومحمد ولد عبد العزيز بأدوار مماثلة لما قام به أبراهام لينكلن وفي ظروف ومحيط أحلك وأصعب من ظروفه ومحيطه! وقد أبلى مثقفو وكتاب وشعراء وفقهاء البيظان بلاء حسنا في محاربة الرق والتهميش والغبن؛ بدءا من ناصر الدين وأحمد بابا التينبكتي، ومرورا بالشاعر والزعيم محمد الحنشي ولد محمد صالح والشيخين محمد سالم ولد عدود ومحمد ولد سيدي يحي. ولكن المتطرفين حاربوهم واتخذوهم أعداء بدلا من أن يرفعوهم ويشكروا سعيهم؛ وقديما قيل: من لا يشكر الناس لا يشكر الله!

8. مايو 2014 - 21:31

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا