وطنية.. باللغة الهندية / سيد محمد ولد أحمد

"swades" باللغة الهندية، أو الوطن، أو الأرض، هو عنوان فيلم هندي مميز من إنتاج 2004.. والمقال اليوم هندي بدوره..
يعمل البطل في وكالة ناسا الفضائية الأمريكية، ويسكن في المدينة البراقة واشنطن،

 ورغم الشهرة والمكسب الجيد يتذكر خادمة عجوز كانت ترعاه في طفولته بحنان، أكثر حتى من والديه، ويتساءل "أين  هي الآن؟ هل ضمتها أضلع قبر أم دار للمسنين مهجورة"..
يحس بتأنيب الضمير فقد أنساه البحث عن الرزق الإعتناء بمن اعتنى به في زمن الضعف والصبا..
تلك الرسالة الأولى: "للرحمة الحب مكان حتى في قلوب المهاجرين الذين قد يتنكر أغلبهم حتى لوالديه!"..
يقرر البطل العودة إلى بلده الفقير فيحصل على إجازة لمدة أسبوعين من أجل ذلك الغرض.. يغادر عاصمة الإمبريالية ليحط في دلهي التناقضات، وهناك يزور دار المسنين ليفاجئ بأن العجوز قد غادرتها إلى قرية حصل على اسمها من عجوز أخرى أخبرته بأنها محظوظة لأنه لا يزال يوجد من يبحث عنها..
وفي مكتبة صديقه يلتقي بفتاة، يلاحظ تقديرها المبالغ للكتاب، وخبرتها في الحساب.. ويسألها عن القرية فتحدد له طريقها ثم تغادر على حين غفلة منه.. يكتري سيارة خاصة ويسافر إليها.. وعندما يصل تفرح العجوز به، ويكتشف أنها ترعى الفتاة وأخيها الصغير اللذين رحل والداهما..
وهنا إشارة إلى ذلك النوع النادر من البشر، الذي يكرس حياته للعطاء وحب الآخرين وخدمتهم، خصوصا إذا كان من جنس النساء، فما أجمل المرأة البشوشة المعطاء العامر قلبها بالحب والدفء والحنان، من هنا تنبع عظمة الأم التي تتمتع بمثل هذه الصفات..
فازت العجوز على الفتاة في الرهان، وهو أن البطل لن ينساها، وسيحضر بنفسه باحثا عنها، كانت الفتاة تتوقع أنه كمعظم المهاجرين الذين نعرفهم، لن يفكر حتى في أبويه، فكيف بوطن فقير وخادمة عجوز؟!
تبدأ مهمة البطل التي تقرر لها أسبوعين كاملين (هما مدة إجازته)، وهي "إقناع العجوز بأن ترحل معه إلى أمريكا حيث الرقي والراحة"، لكن.. يفاجئ بالحال المزرية التي يعيشها بلده، خصوصا في الريف.. الفقر والجهل منتشرين كالوباء الذي لا نجاة منه..
يبدأ في مساعدة الفتاة العاملة (المعلمة في مدرسة القرية) في إقناع الأهالي بضرورة إرسال أبنائهم للتعلم.. تواجهه مشكلة العقلية المتخلفة التي هي سبب التأخر كله، فمن جهة يوجد نظام الطبقات الذي يميز بين الناس حتى أن الأعلى شأنا لا يأكل في طبق واحد مع الأدنى، فكيف يقبل بإختلاط أبنائهما في مدرسة واحدة؟
حاول جاهدا تغيير تلك العقلية التي اعتبرها قيدا مكبلا للقرية، وارجع أساس المشاكل كلها إلى الأنانية، أنانية كل فرد على حدة، فكل واحد - أو جهة - يعمل على تحقيق منافعه وحدها بعيدا عن الآخرين، وأسوأ من ذلك، من يحققها من خلال ظلمهم كما يفعل بعض المجرمين من التجار والدكتاتوريين..
يريهم البطل نجوم السماء التي يمكن رسم أي شكل بواسطتها إذا تم ربطها وجعلها تتحد، أما تركها كل على حدة فلا تعدو الواحدة منها في هذه الحالة أن تكون مجرد نجمة لامعة منفردة في السماء الفسيحة..
ويتجاوز إلى مشكلة أخرى اعتبرها من أسس التخلف وهي مشكلة إلقاء اللوم على الآخرين، كل واحد - أو جماعة - يلقي باللوم على غيره، ولا أحد يدعو للعمل الجماعي من أجل مواجهة المشاكل المشتركة والتغلب عليها بأسهل الطرق وهو الصدق والإتحاد..
وهنا سأقف قليلا مع تخلفنا، فنحن نشاهد اليوم بعض المتحدثين باسم عرق من أعراقنا يطالبون بالإستقلال عنا! وهنا أسألهم: لماذا؟ إذا كان وجودنا يمنعكم من التقدم فلن تتقدموا أبدا، أليس في الإتحاد قوة؟.. أتعتقدون أنكم ستدخلون الجنة إذا ابتعدتم عنا؟ ذلك خطأ يدل على أنكم لستم نخبة بل نقمة، كيف ترجعون أساس مشاكلكم إلى وحدة الشعب الضرورية لقوته؟ ما الذي ستفعلونه وحدكم إذا تحققت أمانيكم المظلمة وانفردتم، ألن يأكلكم الذئب الأسود..
ما الذي يمكنكم فعله وحدكم بعد أن عجزتم عن فعل ما تريدون في وجود الجماعة، وهي البركة؟ ما الذي تعتقدون أنفسكم؟ أتظنون أنكم مميزون عن غيركم؟ ذلك والله جنون العنصرية المسموع به، فاذكروا ربكم واستغفروه، واعلموا أن ما يجمع أعراق هذا البلد ليس النهر الأبيض ولا الكثيب الأسود بل الإسلام الذي لا يفرق بين ابيض وأسود..
نعود إلى الفيلم.. يواجه البطل عقلية دينية خطيرة متجذرة عند الهنود، لكنه يواجهها باستحياء شأنه في ذلك شأن أغلب المصلحين عندما يتعرضون لدسائس الشيطان الصارفة عن التوحيد.. يشير من بعيد إلى أن الإستسلام لظلام الخرافة والجلوس فيه بعيدا عن نور الهداية – الذي هو بالنسبة له "العلم" شأنه في ذلك شأن العلمانيين الذين يعبدون العلم- لن يغير الحال إلى أفضل.. وهذه الخرافة الدينية التي هي طبعا من اختراع البشر، عندنا هنا الكثير من أمثالها مما لا يجرؤ حتى العلماء الكبار على انتقاده والإعتراض عليه رغم فساده الظاهر، خوفا من الأذية، وقد أوذي من قبلهم من هو خير منهم كالأنبياء! تلك الخرافة هي خرافة إلههم المزعوم "رام" الذي ينقذ حبيبته الإلهة "سيتا"، ويقتل الشرير "رافان"!
لم يستطع الفيلم نقد هذه الخرافة نقدا صريحا لتمكنها من القلوب كتمكن خرافاتنا التي لن تقوم للإسلام عندنا قائمة في ظل وجودها، والدليل على ذلك هو تشرذمنا بسببها، فلا ريح لنا ولا كلمة بسبب تفشي البدع فينا، في حين يظهر جليا اتحاد أهل الكفر أمثال الشيعة المجوس والصليبيين وغيرهم، وأقرب دليل على ذلك هو أنك اليوم تسمع بمقتل 100 فرد من أهل السنة في مسجد بالعراق على يد مصاصي الدماء الشيعة، ولا تسمع انتقادا صريحا من الدول السنية، ولا من غيرها، فهؤلاء يكرهون كل مجاهد في سبيل الله بحجة أنه من القاعدة أو داعش أو الإخوان وإن كان في فلسطين أو الشام والعراق، أما إذا قُتل كلب شيعي أو نصراني أو إيزيدي كافر، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وتتدخل دول كإيران واسرائيل وأمريكا، ومن ورائها أوربا المجنونة، لضرب المسلمين السنة، وجعلهم يدفعون ثمن ما لم يقترفوه!..
إن هذا الفيلم يذكر المتميزين من المغتربين بضرورة العمل من أجل أوطانهم فهي أحق بعطائهم.. يقوم البطل بإدخال الكهرباء إلى القرية بمجهودات فردية وبمساعدة الأهالي، ثم يقرر الإستقرار فيها رافسا حضارة أمريكا الباردة بقدمه.. يقول له زميله في ناسا "لا ترتكب خطأ عمرك، فأنت هنا في أمريكا تعيش أفضل حياة، ولن تجد في الهند غير الجوع والنفاق والخداع، وإذا كنت مغرما بالفتاة لم لا تجلبها معك إلى هنا وتستريح؟".. يجيبه قائلا: "إذا كان كل ما ذكرته لك من شروح لم يقنعك فعلي التوقف عن الحديث معك في هذا الشأن، عليك المجيء إلى الهند ورؤية الواقع المزري بعينيك، ربما تقتنع بأن الناس هناك يحتاجون إلينا أكثر مما يحتاج إلينا هؤلاء، ونحن بدورنا في أمس الحاجة إلى حبهم وعطفهم"..
كانت الفتاة المتعلمة قد كرست نفسها لبث المعرفة في قريتها النائية، فأدارت مدرستها بجد وإخلاص، وقاتلت من أجل دفع كل الأطفال إلى التعليم.. وهي محبة لبلدها رغم فقره، فخورة بحضارته رغم تخلفه، تكره المغتربين الجاحدين الذين يهربون من أوطانهم كالفارين من الجذام.. اعترفت للبطل بأنها استنتجت أنه يبحث عن العجوز يوم سألها عن طريق القرية، وضللته حتى لا يسلبها إياها.. قالت له والدموع تنهمر من عينيها "أنا اعرف أنها بمثابة أم لك، ولكنها أيضا بمثابة أم لنا، ولا نرغب في التيتم من جديدا".. وسمعت العجوز الحوار، فزادت حيرتها ففي إرضاء كل طرف إغضاب للآخر، والكل في مرتبة ولدها..
لقد أعطت العجوز صورة ناصعة للكهل المتشبث بأرضه حينما قالت للبطل "لا اعتقد أنني قادرة في مثل هذا العمر على التأقلم مع بيئة أخرى غير بيئتي"..
وأعطت الفتاة مثالا لحب الوطن حينما رفضت المغادرة معه إلى أمريكا بحجة أنها لا ترغب في استبدال وطنها بأي مكان آخر، مهما كان، حتى وإن كان حبيب العمر يسكنه!
وأعطى الفيلم صورة مضيئة لحب الأرض والأهل والأقرباء والجيران، وفعل الخير، والبشاشة، والإصلاح، ولو كان الثمن التخلي عن وظيفة سامية في وكالة ناسا الفضائية، يتمنى الحصول عليها كل بائس كاره لوطنه..

فما أجمل الوفاء حتى للأرض والحجارة، وما أجمل الحب، حب كل الناس، وتمني الخير لهم، وكف الأذى عنهم، وفعل الخير لهم، والرضا بهم، مهما كانوا..
 

14. سبتمبر 2014 - 12:42

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا