القبلية في موريتانيا..الخطر الداهم / سعدبوه ولد الشيخ محمد

تعد القبيلة الحاضر الغائب في الحياة السياسية في موريتانيا، فرغم أن الجميع يتحدثون عن دولة القانون، والمساواة بين المواطنين، إلا أن الاعتبارات القبلية تبدو حاضرة في جميع القرارات، فالتعيينات في المناصب تراعي التوازنات القبلية، لكن ظاهرة القبلية تنامت بشكل مقلق في الآونة الأخيرة،

 والأخطر في الأمر أن هذه الظاهرة تبدو محمية من الجهات الرسمية، بل ومدعومة منها في بعض الأحيان.

صحيح أن للقبيلة جوانب إيجابية، أبرزها التكافل الاجتماعي، ومصداق ذلك قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) لكن إيجابيات القبيلة تتحول إلى ضدها عندما تستخدم القبيلة في الجانب السياسي، لتحل " القبلية" محل الوطنية، فالدولة بالمفهوم الحديث تنتهي حيث تبدأ القبيلة، ومحاولة الجمع بين القبيلة، والدولة يؤدي إلى نتائج كارثية، تغيب معها المعاني الإيجابية للقبيلة، وتختفي قيم الدولة من موساواة، وعدل.

لقد مرت علاقة الدولة الموريتانية الحديثة منذ الاستقلال بالقبيلة بمراحل شد، وجذب، ولعل أبرز تلك المراحل تنحصر في ثلاث فترات.
أولا: فترة ما بعد الاستقلال مباشرة، فالدولة حديثة عهد بالنظام، والمجتمع تتجذر فيه القبيلة، وتفوق سلطتها سلطة الدولة، وهذا الواقع جعل الرئيس المؤسس المختار ولد داداه يتعاون مع رجال القبائل، ويغض الطرف عن نفوذهم، بل ويتنازل لهم أحيانا عن جوانب من سلطة الدولة، لكن ذلك كله كان في النهاية في مصلحة البلاد، والعباد، ومنعا لتدخلات دول أجنبية كانت تتربصص بموريتانيا، وتطمع في الاستيلاء على بعض أراضيها، لذلك تميزت هذه المرحلة بتعاون وثيق بين زعماء القبائل، والرئيس ولد داداه، وصل مرحلة تزويد الزعامات القبلية بالسلاح من طرف الدولة، ونظرا إلى الاعتبارات الآنفة الذكر لم يكن الصدام بالقبيلة، قرارا صائبا، وكان التعاون هو الأسلم، ولم تشهد هذه المرحلة تدخلات سلبية كبيرة من القبيلة.

ثانيا: مرحلة حكم ولد الطايع... حيث توصف هذه المرحلة بأنها مرحلة تسيد القبيلة، وبسط نفوذها، لكن الدولة أيضا لم تكون غائبة، بل على العكس، فهو إذا زواج مصلحة بين القبيلة، والنظام، يعرف فيه كل طرف حدوده، في تجسيد لمقولة: " ما لله لله، وما لقيصر لقيصر" فولد الطايع استخدم نفوذ القبيلة لتثبيت أركان حكمه، وبسط سيطرته على البلاد، والعباد، وفي المقابل منح ولد الطايع شيوخ القبائل نفوذا كبيرا في دوائر الدولة، سواء من حيث المنفعة المادية، أو صنع القرار، وقد نتج عن هذا الاتفاق الضمني استقرار سياسي، وأمني طوال معظم فترة حكم ولد الطايع، ونفوذ كبير لزعماء القبائل، حتى باتت هناك طبقة تعرف ب" وجهاء القبائل" أو سماسرة الوجاهة، يعتبرون الدوائر الحكومية التي يديرونها إقطاعيات خاصة لهم، يوظفون فيها أبناء القبيلة، ويسيرونها كما يريدون.

ثالثا: المرحلة الحالية.. أي مرحلة نظام ولد عبد العزيز.. وقد تميزت العلاقة بين الدولة، والقبيلة خلالها بتقلبات كبيرة، ومفارقات غريبة، فولد عبد العزيز بدأ حكمه بحرب كلامية على القبيلة، واعتبرها سبب خراب الدولة، وانتقد في مناسبات عدة من أسماهم رجال القبائل، مؤكدا أنه لن يتعامل معهم، وأنه سيعلي من شأن الدولة، لكن هذا الخطاب لم يدم طويلا، فسرعانما اكتشف ولد عبد العزيز أن الأمر ليس بهذه السهولة، فإزالة رئيس من القصر الرمادي، وإنهاء سلطته، أسهل بكثير من إزالة نفوذ القبيلة، وسلطانها، حينها بدأ ولد عبد العزيز هدنة غير معلنة مع رجال القبائل، وبدأ على استحياء استقبالهم، والتنسيق معهم، خاصة في الانتخابات الرئاسية 2009 و 2015 حيث استفاد ولد عبد العزيز من الزعامات القبلية في حشد المصوتين له، ولحزبه.

لكن الأشهر القليلة الماضية، وتحديدا مع بداية الحملة الرئاسية الأخيرة أطلت القبيلة برأسها بشكل غير مسبوق، وسط تعام من السلطة أحيانا، ودعم منها أحيانا أخرى، وسنتوقف هنا عند مثالين على تنامي دور القبيلة، ودعم الدولة لها.

المثال الأول: زيارة رئيس الجمهورية الأخيرة للحوضين حيث تجلت القبيلة في أبشع صورها، وسط تجاهل من السلطات، يصل حد الدعم في بعض الأحيان، فوالي الحوض الشرقي- الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية- قام بتخصيص مساحة أرضية لكل قبيلة لعرض أنصارها منفردة، مع علمه أن الحشد هنا يتم على أساس قبلي محض، وخلال وصول الر ئيس للنعمه كنت تشاهد التجمعات منفصلة بعضها عن بعض وكأنها وفود الحجيج، كل دولة تميز حجاجها عن الدول الأخرى، كما كانت شعارات القبيلة ترفع في استقبالات ولد عبد العزيز، والمستقبلون يتغنون بأمجاد قبيلتهم، بدل إنجازات ولد عبد العزيزن وكأنهم جاؤوا لإظهار حجمهم لا للترحيب بالرئيس الزائر.
وبما أن ولد عبد العزيز - باعتباره رئيسا للجمهورية-، يملك حق التغيير، والقدرة عليه، فإن سكوته على هذا الواقع القبلي يعتبر " إقرارا له" إن لم يكن تشجيعان بل إن لقاءات ولد عبد العزيز مع أطر الحوضين لم يكن الاعتبار القبلي غائبا عنها.

المثال الثاني على تنامي ظاهرة القبلية مؤخرا هو أن معظم الاجتماعات، والمهرجانات التي تنظم مؤخرا تتم على أساس قبلي محض، فقصر المؤتمرات في انواكشوط بات مكانا للحشد القبلي، على مرأى ومسمع من السلطات، فآخر تجمع نظم في قصر المؤتمرات منذ أيام فقط، كان قبليا بامتياز، رغم رفعه شعار " العالمية، والإفريقية" فمعظم الضيوف، وغالبية المتحدثين، كلهم من قبيلة واحدة، وحتى الصحفي، بل وقارئ القرآن كلهم من القبيلة نفسها! كل ذلك داخل قصر المؤتمرات، وتحت حراسة الأمن الرئاسي " بازب".
خلال مؤتمره الصحفي الأخير قبل أيام تبرأ ولد عبد العزيز من دعم القبيلة، مؤكدا أنه لم يحضر جلسات السمر الليلي، حيث الطرب، والأدب - كما كان يفعل ولد الطايع- لكن ولد عبد العزيز أقر في ذلك المؤتمر الصحفي الشهير بأنه لا يستطيع منع القبائل من القيام بأنشطة قبلية، ولا يستطيع منع الإعلام من تغطيتها، وهو عذر أقبح من الذنب، فمن يستطيع وقف بث مؤتمر صحفي على الهواء مباشرة، بعبارة " اقطع" يستطيع أن يوقف دعم الدولة للقبلية على الأقل

12. أبريل 2015 - 0:54

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا