العطلة الصيفية بين التخطيط والتفريط!! / د. يحي عابدين

هلّت علينا أخيرا شهور الإجازة وقد ودعنا المدارس والكراسات والكتب المدرسية وأغلقنا الباب وراء الاستيقاظ باكراً والنوم مع العصافير.. وفتحنا الأبواب على مصراعيها للرحلات والزيارات، للأعراس والسهر، وشرب الشاي ومشاهدة التلفاز، فمن الصعب أن يترك الإنسان نفسه كريشة

 في مهب الريح، أينما تأخذه الرياح يمضي؛ إذ لابد من تخطيط لحياته يسير وفقه.. فأين قررنا أن نقضي العطلة الصيفية؟ وهل استشعرنا فعلا أنها طاقة مهدرة معطلة؟ وأن خطورة الفراغ تكمن في عدم استشعار أهمية الوقت، فدائما ما تفوت ثلاثة أشهر من أعمار الطلبة والكادر التعليمي كله دون أن يستفيدوا منها، أو أن يخططوا برنامجا يتماشى وأهمية الاستجمام والراحة إلى جانب المتعة والفائدة وتطوير الذات، ذلك ما سنعرض له في نقاط ثلاث:
أولا؛ ما تتحمله الأسرة والمجتمع: ويتعلق باستشعار الفرد لأهمية الوقت ومعرفته أنه أغلى ما يملكه الإنسان، فهو حياته، وعليه أن ينظمها، وقد ألف الكثير من العلماء في عمل اليوم والليلة، قال النبي صلي الله عليه وسلم:(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)، إن على الأسرة في مجال التربية أن تحافظ على أوقات أبنائها، وأن تراقبهم في هذا المنزلق الخطير، وهذا الفراغ القاتل، كما كانت تراقبهم طيلة السنة الدراسية، وأن تحذرهم من قرناء السوء، وأن تضع لهم أهدافا من قبيل إدخالهم في دورات لتعلم القرآن والسنة باعتبارهما أس ثوابت الإسلام والقيم والأخلاق، وكذا المعلوماتية باعتبار أن من لا يتقنها اليوم هو رجل أمي، وكذا اللغة الانجليزية باعتبارها لغة الاقتصاد والعلم، وكذا إتقان بعض المهارات التعليمية التي أصبحت فنا يعقل، وليس تلقينا يحفظ، وأن على الأسرة كما أنها كانت تنفق على الطالب طيلة السنة الدراسية أن ترصد مكافئات جديدة في العطلة من أجل تحقيق هذه الأهداف، ولكي لا يضعف مستوى الطالب أو تتبخر معلوماته التي كدّ من أجلها وسهر، فالعمل الذي يكافأ عليه دائما يتكرر، وكل هذا بخلْق مبدإ أساسي لدى الطلبة وهو أنهم يجب أن يبحثوا عن العلم وليس عن الشهادة!!
و المجتمع الموريتاني يتحمل الجزء الأكبر في المعوقات الاقتصادية للطالب،  حيث لا زال ينظر للأعمال الحرة والخاصة بشيء من الدونية والقدح والتذميم، بينما علينا أن نغير العقلية وأن نعلم أن أي عمل  هو بناء للشخصية ومعرفة جديدة للمجتمع عن طريق الاحتكاك به، فليس على الطالب أن ينتظر الإنفاقات من أبويه، أو أن يظل متكلا على المنحة الجامعية إن كانت له منحة، و ليس له أن يتكبر عن مهنة والده، بل بمساعدته في العطلة الصيفية، وهذا ما يجب على المثقف خاصة معرفته، وعلى الداعية المسلم عامة الزج بنفسه في ذلك سبيلا إلى خدمة المجتمع، فالأنبياء وهم أشرف الخلق، كان جلهم يرعى الغنم ويعمل من كدّ يديه وعرق جبينه، فعلى الطالب أن يبحث عن عمل يتناسب وتخصصه، فإن لم يجده، بحث عن عمل يرفع به مستواه الاقتصادي، فإن لم يجد وظيفة مدفوعة الأجرة تبرع بجزء من وقته في التطوع في أعمال اجتماعية وتوعوية وخدمية، من قبيل النظافة أو التحسيس أوالتعليم.
والمجال العملي عند الفتيات والبنات هو مجال أقل و أضيق من غيره، نظرا لعدم ملائمة كل الأعمال للنساء، لكن فرصة الإجازة فرصة للاستفادة من طرفهن من الأم في الخبرات المنزلية، أو الولوج لدرورات في الطبخ والتسيير، نظرا لأن البنات هن أمهات في المستقبل.
إن العمل يبني شخصية الفرد وينمي قدراته, ويكسبه الخبرات, ويعمق تواصل الفرد الاجتماعي، ويكسبه التعرف على أصدقاء جدد وعالم جديد وينمي لديه القدرة على اتخاذ القرار في هذا العالم الجديد بحيث يتماشى مع ما يتناسب مع أخلاقنا وديننا ويبتعد عن كل ما نهانا عنه الشرع، ويستطيع اتخاذ القرار فيمن يصاحب في هذا المجال ومن لا يصاحب، كما يكسبه العمل الذكاء الاجتماعي الذي لا يستطيع اكتسابه دون الخوض في سوق العمل ومخالطة الناس، كذلك يكسبه القدرة على التصرف في جل المواقف دون مساعدة أحد.
و علينا أن نحرص كل الحرص على أن نكون لأولادنا القدوة الحسنة في الاستفادة من العطلة؛ لأن الأولاد يُقلّدون الآباء والأمهات في كل شيء تقريباً، فبقدر ما نستفيد نحن من إجازتنا بشكل يرضي الله عز وجل، ونبتعد عن معاصيه، بقدر ما ينعكس ذلك على سلوك أفراد الأسرة.
ثانيا؛ ما تتحمله هيئة التدريس: إن على كل فرد في هيئة التدريس أن يطور نفسه، وأن يواكب التقدم العلمي والحضاري والتقني، وأن يتعرف على كل جديد في مادته وتخصه، وأن يوائم بين المناهج الجديدة، وكل ما تعلمه في المنهج القديم، فأحيانا تجد بعض الأساتذة والمعلمين لا يستطيع التعامل مع الكومبيوتر، وقد فرضت المعلوميات اليوم نفسها، حيث صار من لا يجيد الحاسب الآلي يحسب من الأميين، فعليهم إذن تعلم لغة المعلوميات،  التي أصبحت مطلوبة حتى في مجال التجارة، من أجل تسيير المحلات التجارية، وتسهيل المحاسبة بها، وضبط الأمور، فالخبرة هي التجربة، وهذه المهارات لا علاقة لها بالسن، وإنما علاقتها بالعزم والإرادة، وعلو الهمة، فلتبدؤوا الآن.
وبما أن هيئة التدريس هي التي تمثل الطبقة المتعلمة والمثقفة وهي القدوة، فعليها كذلك أن تنفق من علمها بالتبرع في حملات التحسيس، وأن تقوم بمحاضرات، وأن تنفق من هذه المهارات، فإن الله لن يسأل الفاقد للمهارات عنها، وإنما سيسأل من أعطاه كل هذه القدرات، ماذا فعل بها، وهل فعلا تصدّق منها؟ علينا أحيانا أن تكون لدينا زيارات عائلية، من الأغنياء للفقراء، وذلك من أجل مواساتهم، والجلوس معهم لبضع دقائق، وأن نترك أطفالنا يرون أطفال هؤلاء الفقراء الذين يفرحون بما يهدى إليهم من غذاء، ومما اصطحبتم لهم من هديّة وملابس، فبذلك يتربى فيهم الاجتماع والعطف على الناس، وحب التعايش، والمواطنة الصادقة، المبنية علي الإيمان، وهو ما يجعل الكبار كذلك يحمدون الله، فتفاوت الطبقات هو سنة كونية، من أجل أن تستمر الحياة،  ولا يستدعى أفضلية طبقة على أخرى، ولا عنصر ناجح على عنصر أقل من ذلك، فلنحمد الله ولنرضى بما نحن فيه.
ثالثا؛ ما تتحمله الدولة والمجتمع المدني والنوادي والجمعيات والأحزاب السياسية: وهو محاولة تيسير وكالات سياحية وسفرية، وتفعيلها وتسهيلها بأثمان مناسبة للعائلات وللطلبة، حتى يقضوا إجازتهم وعطلتهم السنوية داخل البلد، بدل السفر للخارج، لأن بلادنا تزخر بالكثير من الأماكن الجذابة، والمناظر الجميلة، خاصة في فصل الخريف هذا، فعلينا أن نفسح المجال للمواطنيين كي يتعرفوا على وطنهم، فهم من سيسوّق السياحة للغير، ولابد قبل ذلك أن يتعرفوا على أماكنها، وذلك بتسهيل النقل، وإعداد العدة من أجل ترميم المناطق السياحية المنكوبة، وبناء أماكن جديدة، وتسهيل الخدمات، وفتح الطرق، وإشاعة الأمن، كما أن على الدولة أن تنظر في إقامة تكوينات جديدة لهيئة التدريس، وأن ترفع من مستوياتها، وأن تجمعها في ندوات من أجل مناقشة مكامن الخلل التربوي، وكيف زادت أعداد التسرب المدرسي عن 27%، أي 185000 تلميذ وطالب، وفي بلد عدد سكانه حسب الإحصاء الجاري 3.5 مليون نسمة، وكيف قلت نسبة الناجحين في الباكلوريا إلي 7%، وبقيت أكثر من 33000 طالب لم تنجح، وما هي الحلول المقترحة لذلك؟  لابد من خلق وإيجاد خطط للنهوض بالتعليم، وأن تقيم الدولة مسابقات ثقافية ومخيمات علمية للطلبة، وأن تفتح مكتبات كبيرة طيلة العطلة الصيفية لتشجيع القراءة والبحث العلمي، حتى نربي في الأجيال إيثار العلم و العمل على النوم والكسل، وأن نحصنهم من كل ما يراد بهم من سوء.
و ياليتنا أيها الشباب نفكر في الأعمال التطوعية، مثل حملات النظافة، أو حملات التوعية ، أوحملات التحسيس للمواطنة، من أجل إيجاد ثقافة احترام الآخر، وإيجاد مفهوم الدولة، والحضارة داخل الوطن، ويا ليت الدولة تعاون وتساعد كل من يقوم بذلك، وتستفيد من هذا الوقت الذي يتطوعون به، وتنتهز هذه الفرصة الثمينة منهم.
كما أنه يجب إيجاد مؤسسات عملية من أجل خلق وظائف صيفية، ودورات مفتوحة من طرف الدولة و المجتمع المدني و الجمعيات النوادي و الأحزاب السياسية في مجالات مختلفة، وعلى الدولة أن تشجع مهرجانات التسوق في العطلة، وكذلك مهرجانات الصيف ومدن الألعاب، والمسابقات الثقافية،  لأنها تشكل عامل إغراء قوي للجميع.
أنا لا أقول كونوا جديين وعمليين فحسب، ولكني أقول علينا فعلا أن نستريح ونعمل رحلات استجمام واكتشاف، وأن نتزاور، وأن نقرأ كتب القصص والتاريخ والأدب، وأن نمزح، ونطالع بعض البرامج المضحكة من الأنترنت بجميع وسائطها، دون أن نسهر عليها لأن السهر يضعف الجسم، وينهك الأعصاب، ويرهق البدن، ويفسد نظام الوقت، ويضيع الصلاة، وهذه البرامج والمخططات من أجل الراحة وإعادة النشاط، وليس من أجل بعث الكسل والخمول والإرهاق، المهم أن لا نخرج من العطلة  كما كنا، فتلك خسارة كبيرة.
وختاما علينا أن نعلم أن الإجازة ليست عن العبادة، فالعبادة هي ما خلقنا من أجله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، بل إن العبادة تتأكد ساعة الفراغ لقوله تعالى: (وإذا فرغت فانصب)، وإن الدين والقيم والأخلاق والثوابت الوطنية، وحب الوطن هي العناوين التي يجب أن نربي أبناءنا عليها وأن نسعى لغرس مفاهيمها المختلفة في أذهانهم كل حسب عمره ومستواه، وقد أحسن القائل:
ما قلة الأعداد نشكو إنما *** تشكو الكتائبُ قِلة الإعداد

3. أغسطس 2015 - 15:09

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا