الثقافة السياسية بين انحسار الماضي و غلبة الضياع / الولي ولد سيدي هيبه

"الثقافة السياسية هي مجموعة القيم والمعايير السلوكية المتعلقة بالأفراد في علاقاتهم مع السلطة السياسية، هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع، طالما أنها مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شئون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة.

وتعنى أيضاً منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم".
و لأن الثقافة التي هي أشمل كلمة قديمة وعريقة في لغة الضاد و تعني "صقل النفس والمنطق و الفطانة، و في المعجم "وثقف نفسه" أي صار حاذقا خفيفا فطنا. ولطالما استعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. و إجمالا فإن الثقافة هي كل مركب يتضمن العقيدة و المعارف والفنون والأخلاق والقوانين والعادات". و من هنا تكون "الثقافة السياسية" جزء من هذا المركب الهائل و تتميز في داخله بجملة من المقومات و المعاني تؤهلها لدورها الجوهري في قيام الكيان و استقامة أموره.
و يعتبر الفعل السياسي أحد أهم مقومات الحياة الإنسانية، إذ من المعول عليه لخلق قنوات دائمة للتفكير في ماهية الآليات والوسائل الكفيلة بتدبير حاجيات المواطنين اليومية في شكل يتحقق معه التوازن بين ما هو اجتماعي، سياسي، اقتصادي وثقافي.
و قد اشتملت الثقافة السياسية في هذه البلاد التي انتمت قلبا و قالبا إلى دائرة "الضاد" ـ منذ أناخ بربوعها و حط رحله على سهولها و وهادها و سفوحها و جبالها عبر مختلف تشكلاتها الحضارية في كل الحقب التي أصابها خلالها بعض نور التدوين و التأصيل بحرفه و في الصميم ـ و تأثرت بجملة من التناقضات تسببت فيها و بررتها أوضاعها المترنحة بين قليل الاستقرار الذي يفرضه الشتات و تباعد المناطق المتضمنة بعض مقومات العيش و الثبات ردحا، و بين الخلافات المزمنة التي تدفع إليها الرغبة الجامحة في بسط اليد على المناطق ذات الحضور المائي و الانتجاع الموسمي. حروب لا تنقطع و تصالح يتبعها لتنقضه من بعد الظروف اللاحقة دون أن يكون لإرادة الشر المستطير فيها إلا ما يكون من املاءات القدر و قضائه.
و لأنه على خلاف كل المجتمعات البدوية المستوطنة المناطق الصحراوية الجافة والمقيدة ضمنها في دائرة البحث الدائم عن مصادر الماء و أماكن الكلأ دون سواهما، فإن المجتمع البدوي الموريتاني القديم استطاع على العكس من هذه المجتمعات ـ في ظاهرة فريدة على مر تاريخ التجمعات البشرية ـ أن يصبح مجتمعا شديد الاهتمام بالعلم في حله فريدا على امتداد المساحات الشاسعة الغير مأهولة، و في ترحاله وراء المزن التي تطرده الرياح باستمرار و تلتهم ماءَ مُعصِراته الثجَاج أشِعةُ شمس السماء الحارقة قبل أن ينزل، و في انتجاعه الذي لا يدوم إلا قليلا لينتهي كلما تعرت التربةُ من شحيح النبات الذي خلفه الوابل المهاجر.. هو العلم إذا الذي كان له الأثر البالغ في تشكل "ثقافة سياسية" داخل حياض ثقافة بدوية أشمل في الأعم و شبه حضارية في فضاء مدن شنقيط، وادان ولاتة، تيشيت و "آزوكي"، تلك المدن التي كانت محطات استراحة و تبادل تجارة قوافل الصحراء و علم و كتب العلماء و الطلاب المتحررين من كراسي الدرس الثابتة، الطالبين للاستفادة و الاستزادة و التبادل المثري في الترحال، حتى دعيت بـ"الثقافة العالمة". و لقد استطاعت هذه السياسة الثقافية، التي لها ما لها و عليها ما عليها، أن تضفي على نمط العيش العصيب و التعايش الصعب نوعا من الاستقامة و إن ظلت تشوبها صولات و جولات عنف بمسوغات بعض قانون الغاب، الذي لا تخبو جذوته إلا مرحليا عندما تكون الأحوال متسمة ببعض النعمة و عابر الرخاء و الاستقرار.
و لقد كان لقيام هذه المدن التاريخية القديمة إذا الأثر البالغ في ترسيخ الثقافة السياسية بمعطيات تجاوزت النظري و التعاملي بالتراضي إلى المقيد المكتوب الملزم في حدود ما كان متاحا دون الإجماع الذي لا تضمنه إلا الدولة المركزية، و إذ المعلوم أن البلاد و تدعى كانت "اتراب" لغياب حدودها في الأذهان و في واقع الجغرافيا الحدودية إلا ما يكون بالقوة و الثبات. و هي المدن التي أتاحت قراءة الوافد من الكتب من مشارق الأرض و مغاربها التي تحتوي و إن بتفاوت بعضا من المفاهيم المنتمية قالبا إلى الثقافة السياسية، دون أن تخلو من مؤلفات أبناء البلد و رموزه الكبيرة من أمثال الإمام أبو بكر محمد بن الحسن "الحضرمي" المرادي الذي ترك كتابا في الحكم "الإشارة في تدبير الإمارة" صاغ فيه فلسفة الحكم و و أودعه وصايا في تدبير السلطة، وفصل القول في آداب الإمارة والوزارة، وأنـواع الإدارة والاستشارة، وصفة المستشار، والجيش - قواده وجنوده - وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الحاكم.
و الكتاب يضاهي بل و يفوق في قيمته العلمية و السياسية و بكثافة الحرف العربي كتاب "نيكولو ماكيافيلي Nicholo Machiavelli" الذي يعتبر مرجعا عالميا في العلوم السياسية بل والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي في عصر النهضة. و لإن عرفت موريتانيا عصرا غالبا من الفوضى دعاه المؤرخون "السيبة" بمعنى "الانفلات" من قبضة النظام و العدل، فإن إطاليا ماكيافيلي لم تشتهر في ذلك العصر هي كذلك بالنظام و لا الحكم المركزي الجامع المانع. و لكن منطق و عقليتة "السيبة" مازالا سائدين في هذه البلاد مما ظل يشوب ثقافة أهلها السياسية، التي لها جذور في التاريخ و مرجعية ثابتة خبرهما عن كثب المستعمر الفرنسي في مرحلتي المقاومة و قيام الدولة المركزية على يده بعدما نجح بعون مؤيديه في تقليص سلط الإمارات و المشايخ الروحية الجامحة. و هما منطق السيبة و عقليتها اللذان ما زالا كذلك يدعمان في الواقع القائم و الأوضاع المعيشة مظهر التخلف و بقاء سلطان الغبن و الصراع العقيم على السلطة.
و يتجلى كل ذلك في الاختلالات التي لا تخطئها العين و لا يفوتها منطق التحليل السليم. و لإن لم تسلم كذلك الأحزاب في الممارسة الميدانية من تعثر "المتجاوز" لمبادئ و قيم و ثوابت و قواعد الثقافة السياسية السليمة في مجتمعه، حبا أعمى في السلطة لغاية الحكم المجرد، فإن الشعب الغارق في همومه اليومية التي تمس كل جوانب حياته الصعبة تناسى أو بالأحرى جهل هو كذلك أن ثقافته السياسية التي هي جزء من ثقافة مجتمعه العامة تقتضي منه أن يدرك أنها مجموعة القيم والمعايير السلوكية المتعلقة بأفراده في علاقاتهم مع السلطة السياسية، بها يحددون العلاقة معها و غيرها من المنظومات و الأطر السياسية المرجحة للتناوب.
و لما كان هذا الفهم ناقصا و ضعيفا إن لم يكن بالأحرى غائبا مطلقا، فإن السياسيين و منذ أن كانت التعددية الحزبية التي قضت على روح الحركات السياسية ـ ذات المشارب الأيديولوجية و الأهداف المبدئية و التي لم تسلم تماما من شائبة الماضوية ـ ظلوا منقسمين إلى فسطاطين:
·        أحدهما ينضوي بكل إرادته و تحت مظلة الحكام الأقوياء فيخضع لطبيعة نظامهم مؤيدا و خادما مطيعا لمنهجيتهم و خطابهم و توجهاتهم، لا ينتقد مطلقا و لا يصرح بخاطب خارج في سياقات كلها عن خطابهم، و بالمقابل يحصدون منافع مادية و وظيفية و بعض فتات الوجاهة التي يحدد النظام حجمها و يرصد أبعادها؛ و هذا الفسطاط لا سقف لأحزابه تتكاثر عند الحاجة من رحم القبلية و الجهوية و بأيدي أرباب المال القادم من خزائن الدولة؛
·        و أما ثاني الفسطاطين المنسوب للوجه السياسي المعارض فإن أغلب تشكيلاته لا تمتلك صفحة نقية من القيم السياسية الوطنية و المبدئية المشهودة، إلا من أوتي حظا من ثقافة سياسية متبصرة، يرفع بها رصيد الحضور بين الجماهير فتتبعه مستمعة، مؤيدة و ساعية معه و به إلى التغيير و الإصلاح الناقصين.
قوة لا ترفع الوطن عند الأول و تسخره لمجموعات قبلية و أسرية و "لوبيات" مالية مصطنعة و مخنثة فكريا تعيث فيه فسادا و تزيد الهوة اتساعا بينها و بين الغالبية العظمى من شرائح الشعب الواقعة تحت سطوة الفقر و التخلف و ضعف التغطية الصحية و انهيار المنظومة التعليمية و تشقق النسيج الاجتماعي.
و قوة خائرة عند الثاني غير قادرة على مراجعة نفسها و تصحيح آليات نضالها. قوة نظرية بعيدة في واقع أمرها المتفكك عن استنتاج العبر من أخطائها الفادحة و تناقضاتها المدمرة و من أطماعها السابقة لأوانها و في غير محلها بحكم عجزت عن تبني مواقف فعالة إزاءه و اتخاذ تدابير السعي الممنهج إليه بتوعية الشعب و غرس و تلقين مفاهيم الثقافة السياسة الناجعة في عقله و ممارسته و إقناعه باستقامة و أحقية نضاله و رص صفوفه و توجيهه إلى المطالبة بحقوقه في قالب سياسي ملتزم، صارم و نافذ.
هو قدر هذه البلاد أولا أن تظل متشبثة بـ"ماضوية" ترتب الأنساق للبعض الذي ظل يمتلك قياسات الحكم في فراغ "السيبة" و في فضاء الدولة المُقَوْلبة على طراز الحداثة حتى تراوح الأوضاع مكانها فلا  تستجيب مطلقا لعاملي الزمان و المكان؛
و هو قدرها ثانيا أن تظل أمورها تسير دون المطلوب بفعل تعطل محرك الشعب الذي لا تدفعه عوامل التحول الهائل من حوله في العقليات و الإرادة بقدر ما يظل المغذي بانصياعه و قبوله لواقع "الماضوية" لمحرك تهميشه و تخلفه و هوان بلده.

3. أكتوبر 2015 - 17:55

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا